عن السب في "الراب".. وأعراض "مرض الإبداع" و"ماركيتينغ" الفن.. عبقري يحلل "عاش الشعب"

عبد الرحيم سموكني

عاد موضوع أغنية "راب" مغربية ليشعل الجدال حول حرية الإبداع وحدود اللباقة في نثر الكلمات، وهو جدال ليس بالجديد.

ولد الجدال أول مرة بأول أغنية "راب" مغربية في بداية الألفينات، مع مجموعة "عود الليل" ثم مع ألبوم "مغاربة حتى الموت" لبيغ سنة 2006، بعدها سيصعد موبي ديك الموتشو باختيار كلمات نابية، قبل أن يعاود البيغ مرة أخرى اللجوء إلى خطاب تصعيدي في أغنية "170 كيلو"، لكن الضجة التي خلقتها أغنية "عاش الشعب" للثلاثي "ولد لكرية" و"لكناوي" و"لزعر" أعادت الجدال من جديد، فهل "الراب" هو كل كلام جريء ناب مباشر، حتى لو خلا من صور شعرية؟ وهل على هذا الفن أن يتبنى خطابا صادما بكلمات جارحة، أقرب إلى السب والشتم ليحقق الانتشار؟ وهل يمكن الحديث عن تطرف موسيقي في هذا الفن؟

يجيب الخبير الفني هشام عبقري، وهو من الأوائل الذين واكبوا ورافقوا مغنيي "الراب" المغاربة في نهاية التسعينات وبداية الألفية الثالثة، بالقول إن هناك فرقا كبيرا بين التطرف الفني والمزايدات الإبداعية.

"المزايدة" في "الراب"

ويشرح عبقري، في تصريح لـ"تيلكيل عربي"، أن "المزايدة في 'الراب' تساعد 'الرابور' على كسب الانتشار، وكلما كان المستهدف بارزا كلما صعدت أسهمه بين منافسيه، فالتهجم على مقدم ليس كالتهجم على وزير"، ويضيف عبقري "إن الأمر بسيط، فلتحقيق القيمة المضافة، يعمد مغنو 'الراب' دائما إلى الاعتماد على القاعدة التي تقول بأن القيمة المضافة تساوي المخاطر مضروبة في الاحتمال، فكلما خاض المغني مخاطر أكبر كلما كبر احتمال انتشاره، وبالتالي كبرت قيمته المضافة".

بالنسبة للمتحدث، فإن اللجوء إلى السب والشتم ليس بالأمر الجديد في أغاني "الراب" المغربية، وهي عادة اكتسبها المغنون المغاربة من أمريكا، مهد "الراب"، وأن التجارب السابقة لأغاني ضمت قذفا وسبابا كبيرا، ابتداء من أغنية "الرو دو" لمجموعة "عود الليل"، ثم بعدها البيغ في ألبوم "مغاربة حتى الموت"، كانت دوما تصعد في "التوندونس" في منصة "يوتوب" لبث الأغاني، والأمر نفسه سلكه المغني "الموتشو"، ثم عاد البيغ قبل سنة لينهج التكتيك ذاته، لكنه أداءه لأغنيته بالإنجليزية قلص الاهتمام بمضوع السب، وسلط الأنظار على شكل الفيديو كليب، لكن بالتزامن مع كل هذا بقيت أغاني "أندرغراوند" تتضمن كلمات قاسية ومليئة بالسب والقذف.

أما في ما يتعلق بالأغنية المثيرة للجدل "عاش الشعب"، فيرى عبقري أن مغنيا مثل "لكناوي" اعتاد دوما تواجده في الرتب العشر الأوائل للفيديوهات الأكثر مشاهدة في المغرب عبر "يوتيوب"، ويضيف "ما أود الإشارة إليه، هو أنه لا لشيء عفوي في هذه الأغنية. إنهم نهجوا استراتيجية تسويقية محكمة، أولا فالأغنية هي 'فيتورينغ' يجمع ثلاثة مغنيي 'راب'، نزلوا أغنيتهم في قناة واحدة هي قناة "ولد لكرية" حتى لا يشتتوا المشاهدات، كما أن طريقة التصوير اعتمدت أن يظهروا عراة لتظهر ندوب الجروح بادية عليهم، بما يحيل على "القهرة" التي يعيشونها، إذن، فإذا أضفنا منسوب السب والشتم المتضمن في كلمات الأغنية، وأسلوب الميكساج التي اعتمد أن يبرز الكلام أكثر من الموسيقى، فإننا أمام وصفة انتشار ناجحة".

يتابع عبقري كلامه عن أغنية "عاش الشعب" بالتأكيد على أن السب في الثقافة الشعبية هو من اختصاص الأضعف، الذي لا يقوى على المواجهة، فيلجأ إلى السب لمنح نفسه جرأة انتقام كلامي كأضعف الإيمان، وليظهروا حجم القهر الذي يعيشونه.

ما "الراب"؟

يرفض عبقري الإجابة عن سؤال "هل كل كلام مغنى ولو كان مقفى، هو 'راب'؟" ويرد بأن السؤال يمكن أن يطرح بصيغة: هل هو إبداع أم لا؟،  ليجيب بأن لكل عملية إبداعية قواعدها، والتي تتطلب رسالة معينة؛ إذ أن الإبداع، بحد ذاته، رسالة تكون وفق مرجعية معينة، كالصور الشعرية والتشبيه والانحياز، ويجب أن تتماشى مع الكلام المقفى، وليس الاستظهار، وهو ما رأيناه في أغنية "عاش الشعب".

ويضيف عبقري في هذه الأغنية جرى الاعتماد على لازمة "عاش الشعب" وهي ممتحة من سياق ومرجعية سياسية، "فإذا أمعنا النظر في الصفحات الأولى التي شاركت الأغنية على مواقع التواصل الاجتماعي، سنجدها صفحات المقاطعين والصفحات المرتبطة بحراك الريف ومناضلي 20 فبراير، لذا فاختيار هذه اللازمة لم يكن اعتباطيا بالمرة، كما أن الهم التسويقي ("الماركيتينغ" الفني) كان حاضرا، لأن الهدف من كل هذا هو جني المال"، على حد تعبير الخبير الفني.

ويرفض عبقري مساندة الرأي الداعي إلى مصادرة هذا النوع من الرقابة، ويقول إنه ضد أي رقابة فنية، بل يذهب إلى حد اعتبارها أحد الأسباب التي دفعت ببعض المغنيين إلى "اعتماد هذا الأسلوب المزايد لتحقيق الانتشار"، لأنهم يتعرضون لحصار إعلامي، كرس مفهوما وحيدا للفن، ويقول "في البداية تحدثت عن الفرق بين المزايدة والتطرف في الفن، فمغنو 'الراب' متخصصون في المزايدة، أما المتطرفون في الفن، فهم أولئك الذين يرون في الأغاني التي لا تعتمد على مرجعيات إيديلوجية ونضالية، مجرد أغان تافهة، ويقول "أولئك الذين يريدون أن يروا فقط نماذج مكررة للشيخ إمام ومارسيل خليفة، ومان تشاو، أولئك الذين أطلقوا تسمية الفن الملتزم والنظيف، هم من أرى فيهم متطرفين فنيين".

يوضح عبقري أن المتطرفين الفنيين هم من يرمون من يختلف معهم في الذوق بتهمة إفساد الذوق العام، ويصير عندهم الإبداع مرتبطا بخدمة أجندات معينة في بعض الأحيان، ويريدون فرضه على الناس.

ويتابع بالقول إن كثيرا من الفنانين والمغنيين يفضلون غناء مواضيع الحب والغرام والهجر والدلال، لأنها تجنبهم الوقوع في مشاكل كبيرة، كما أن الإذاعات الخاصة لا تترد في بثها، مضيفا "ويجب أن نعلم أن 'الهاكا' تراقب كلمات الأغاني، ففي سنة 2011 تعرض المنشط مومو لعقوبة التوقيف بسبب 'روميكس' لأغنية 'هز البوط'، وبالتالي، فإن هذه الرقابة كرست اتجاها وحيدا من الأغاني، وهو ما دفه بجمهور معين إلى البحث عن منصات أغان جديدة، فجرت الهجرة إلى 'يوتيوب'، وهو الوضع الشبيه بمتابعة قنوات القطب العمومي، التي هجرها المشاهدون لصالح قنوات عربية أو فرنسية أو أمريكية".

بالنسبة لهشام عبقري، فإن الأغنية العصرية المغربية منذ الخمسينات كانت محط انتقاد من المحافظين، فالملحون يتكلم في قصائده عن الغزل والأكل والهجر، كما أن أغانمي عبدالوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط كانت تصب في المجرى نفسه، ويبقى الفن الوحيد الذي كان مرتبطا بالواقع هي العيوط المرساوية".

ويرفض عبقري الحديث عن أغان تافهة، ويقول "إذا أخذنا معيار الكلمات والقصائد لنطلق حكم قيمة، فالأغاني المغربية كانت دوما تافهة، باستناء المجموعات الغنائية التي ظهرت في الستينات والسبعينات، كناس الغيوان ولمشاهب ولرصاد والسهام".

ويبرر عبقري لجوء بعض الفنانين إلى مواضيع سهلة، بكون إجبار بعض قنوات البث، سواء إذاعات أو تلفزيون، على  تجنب الخوض في تيمات السياسة والدين، وهو ما يشجع على ما يمكن أن نسميه "التفاهة".

ويحمل المتحدث ذاته الإطار العام المسؤولية أو ما سماه "مناخ الإبداع"؛ إذ يرى أن الظروف الإبداعية تكون وراء منتوج فني يمكن أن يجمع بين قناعات المغني ومتطلبات السوق وإمكانية ترويجه في الإذاعات وقاعات العروض والمهرجانات، إذ أن "التفاهة" لا تحمل مخاطر أكبر.

ويخلص إلى أن أغنية "عاش الشعب"  ترصد مظهرا من الأعراض الفنية التي لها أسباب سياسية لأن المناخ الإبداعي يعيش ضغطا كبيرا، أدى إلى الهروب إلى العالم الافتراضي، لذا يقول عبقري "علينا دراسة الأعراض لأنها ليست هي المرض، والجودة هي التي ستحكم في النهاية".