د. كمال القصير - مفكّر مغربي
يطغى فقه التكلفة على فقه الإصلاح في الرؤية الإسلامية العامة. ومنذ قرون خلت، لم يغب يوما عن أذهان المصلحين من العلماء والسياسيين سؤال مؤرق، حول التكلفة التي يتطلبها الإصلاح.
وسواء في الفقه السياسي أو بالنسبة للحركات الاحتجاجية في التاريخ الإسلامي، فإن مبدأ التكلفة المرتفعة كان يتحكم في غالب النظر الفقهي تجاه الحركة في الميادين والساحات. وهو ما ينعكس في حجم الشروط، التي تحيط بمجال التغيير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والموقف من السلطة.
ولم يخرج عن الخط العام لمراعاة مبدأ التكلفة المرتفعة، إلا مجموعتان في الماضي والحاضر.
أما الأولى، فهي فرقة الخوارج، التي لم تكن في فكرها وحركتها تلقي بالا لموضوع التكلفة الباهظة للمواقف التي تتخذها. بل إن بعض الخوارج كان عاشقا للتكلفة المرتفعة قدر عشقه للتغيير.
أما المجموعة الثانية، فهي السلفية المقاتلة التي لم تراع مبدأ التكلفة، وألقت بنفسها في أتون الصراعات المسلحة، بكل نتائجها الدموية الصفرية، وأسست تنظيرها على قاعدة تحمل التكلفة، منذ البداية.
وما عدا هذين الفريقين، فإن الخط العام يقدم حساب التكلفة على الإصلاح، وإن لم يصرح بذلك الكثيرون.
التيارات السياسية
لا يمر يوم لا نسمع فيه حديث الدول والناس على اختلاف طبقاتهم عن ضرورة الإصلاح. إلا أن تعقيدات الإصلاح، على مدى التاريخ الديني والاجتماعي والسياسي العربي والإسلامي، تكمن في مكان آخر، إنها التكلفة. وهي تلك المساحة التي يصعب قياس حدودها بالنسبة للجميع.
لقد ركزت النخب المثقفة والتيارات السياسية والأيديولوجية المختلفة في المنطقة في مرحلة ما بعد الاستعمار على أولوية الإصلاح، لكن عنايتها بمبدأ التكلفة كان الأضعف، فلم تحط هذا المجال بما يستحق من التنظير والتجديد وإعادة النظر في كيفية تصوره داخل التراث العربي الإسلامي.
إن العناية بمبدأ التكلفة في رأيي أهم بكثير من الحديث عن طبيعة الإصلاح ومجالاته ومراتبه. ذلك أن حساب التكلفة هو ما يحدد مصير الفكرة الإصلاحية ووتيرتها ومستقبلها وليس العكس.
إن الخطاب الديني الذي يحفز السلطة على الإصلاح الهادئ تراجع بشكل حاد إلى حد الاختفاء تماما، حيث بات الخطاب موجها إلى إصلاح أحوال الناس في الأكثر. لقد كان الخطاب الديني الإصلاحي جزءا أساسيا في تهدئة وكبح الانفعالات وردود الأفعال السلطوية العنيفة تجاه الإصلاح. وكان نصحاء السلطان مدركين أن السلطة فعل وممارسة بشرية ذات نوازع نفسية، لها حالات من الصعود والهبوط.
إن الأدوات الإصلاحية قد باتت ضعيفة بضعف تجديد الفقه والمقاصد. ذلك أن تركيز هذه المجالات على الإنسان حال التكليف، لا تساوي تركيزها عليه حال ممارسة حياته الطبيعية الأكثرية، التي تتطلب امتلاكه العديد من الحقوق السياسية والاجتماعية، ليعيش مكرما في هذا العالم.
إن المقاصد التي تؤكد على حفظ الدين والنفوس والأموال والعقول والأعراض، التي هي ملخص حقوق ومكتسبات الإنسان، في حاجة أن تقدم تصورات أكثر تفصيلا للتكلفة التي تتطلبها عملية الحفظ، والجهة التي تتولى هذا الحفظ، إذا ما سعى الناس وراء حفظ ما هو حق لهم. ومن دون تطوير طرق الحفظ فإن مبدأ الإصلاح يبقى تنظيرا بلا تطبيق.
ولكي أكون أكثر وضوحا، سأضرب مثالا على ما أقصده من اتساع معنى الحفظ، باعتباره أحد المفاهيم الإصلاحية الكبرى:
فإذا كان حفظ العقول لدى أصحاب المقاصد هو منعها من المسكرات والمُتلفات، فإني أقول إن حفظ العقول يكون بحفظ العقلاء، وجعل نخب الأمة ومفكريها في المكانة اللائقة في المجتمع، وحرمة إلغاء وجود علمائها كيفما كان نوع هذا الإلغاء. إن العقل شيء مجرد، أما العقلاء فهم الحقيقة الناصعة التي ينبغي حفظها.
الدولة العربية الحديثة
أجد على رأس الأسباب أن الدولة العربية الحديثة قد تبنت مبدأ رفع التكلفة إلى أقصى مدى عنيف وصفري، في مواجهة أي تيار سياسي أو اجتماعي يطالب بالإصلاح. وجعلت ارتفاع التكلفة عنوانا لكبح أي محاولات إصلاحية جادة ومؤثرة. وبهذا الاعتبار لم يعد تفكير الفاعلين متجها صوب طبيعة الإصلاح، بل إلى سؤال أين سوف تمضي الأمور والعواقب المحتملة. بل إن المجتمعات باتت أكثر حرصا من النخب على حساب ومراعاة التكلفة التي لا يمكنها تحملها.
إن الفكرة الأساسية في المنطقة بعد الهزات التي عرفتها منذ عام 2011، هي أن يفهم الجميع أن موضوع الإصلاح بالنسبة لدول عديدة ليس مجالا للتفاوض والتفاهم مع الفاعلين. وهو ما أكدته النتائج المدمرة التي آلت إليها الأحداث في عدد من الدول. وكذلك بالنظر إلى النتائج التي خلفها مبدأ استعمال القوة المفرطة للقضاء على المعارضين.
وهناك سبب أساسي آخر وهو أن المجتمعات العربية والإسلامية قد فقدت عبر صيرورة زمنية، مؤسساتها الدينية والاجتماعية الضاغطة من أجل الإصلاح السلمي الهادئ، ووجدت نفسها عارية عن الأدوات التي تضمن نوعا من التوازن مع السلطة، أو على أقل تقدير كبح جماحها وعنفوانها الزائد، بدلا من مواجهتها مباشرة.
وينبغي أن ندرك أنه في كثير من الأحيان لم تكن السلطة قادرة على رفع منسوب التكلفة في مواجهة التيارات الإصلاحية، بسبب امتلاك المجتمعات لمؤسسات مستقلة تضغط في اتجاه بناء صيغ التفاهم الهادئ أكثر.
إن الدول لا تلجأ إلى المعادلات الصفرية المدمرة للمشاريع الإصلاحية، إلا إذا فرغت الميادين من المؤسسات والعلماء المؤثرين. فهل تظن أن المماليك بكل عنفوانهم، كانوا يخافون من العز بن عبد السلام؟ لقد كانوا ببساطة مدركين لحجم الكتلة التي يمثلها في المجتمع والتأثير الذي يتمتع به.
التجربة الغربية
إن دولة ما بعد الاستعمار لم تمر بموجة عقلنة لترشيد سلوكها، على غرار التجربة الغربية التي تلقت فيها الدولة جرعات كبيرة من عقلنة السلوك، بما يمنحها مستوى مقدرا من التوازن والانفتاح في التعامل مع المعارضين لسياساتها.
والمشكلة الأكبر أن كثيرا من السلط لم تعد تمتلك في بنيتها الداخلية تلك العناصر التي تساهم في عقلنة سلوك الدولة ومنحها درجة من الهدوء.
وهذا راجع في رأيي إلى مسألة بالغة الحساسية، وهي تغير طبيعة وتركيبة السياسيين الحاليين، الذين يفتقد أكثرهم إلى العمق الثقافي والفكري والرؤية التاريخية التي تدفع نحو الاستيعاب أكثر من الميل إلى الحلول الصفرية. إن رجل السياسة ليس رجل تدبير يومي فحسب، بل رجل أفكار ورؤية ثقافية بالدرجة الأولى.
وكلما زاد عمق الدولة ازدادت مخاوفها من جرعات الإصلاح المقترحة، وزاد خوفها من الآخر، فهي لا تقبل الفاعلين الجدد في منزلها، وتميل إلى استبعاد الآراء الغريبة حسب منطقها. وغالبا ما ينتج خوفها من الفاعلين الجدد سلوكا معاديا لأي إصلاحات مطروحة.
منظومة السلطة
وفي أحيان كثيرة يكون الإصلاح مستعصيا حتى على الراغبين فيه من داخل السلطة، لشدة وصعوبة اختراق القوانين التي تسير وفقها منظومة السلطة. وهو ما ينتج حالة صراع الأجنحة التي تكون نتيجتها صفرية في غالب الأحيان.
إن أحد أسباب ارتفاع تكلفة الإصلاح العربي تكمن في تباعد أزمنة ومحطات الإصلاح، عندما يكون بالإمكان القيام به بشكل جزئي مستدام. إن غياب الإصلاح الجزئي المتقارب يعقد الأمور، ويقرب نحو نموذج الإصلاح الشمولي الذي تخشاه الدول، وذلك بسبب تراكم المشكلات. وعندما يصبح نمط الإصلاح شموليا يصعب قبوله وتتم مواجهته بالقوة المفرطة، لأنه فوق طاقة المجموعات الفاعلة بداخل السلطة ومتعارض مع رؤيتها ومكاسبها.
إن الإصلاحات الكبرى غير المكلفة اجتماعيا من داخل السلطة في التاريخ الإسلامي تتجه في غالبها من الأعلى إلى الأسفل. من عمر بن عبد العزيز إلى نظام الملك السلجوقي وآل زنكي والمرابطين وغيرهم. وحتى النماذج الإسلامية المعاصرة الهادئة في الإصلاح فقد جاءت من الأعلى، مثل حالة ماليزيا وأندونيسيا وقطر، وإلى حد كبير في تركيا، حيث السلطة نفسها بلغت من النضج درجة كافية لتمتلك إرادة الإصلاح، دون تكلفة مرتفعة تتحملها المجتمعات.