فشل الإسلاميين: إليكم القصة المختبئة

تيل كيل عربي

د. كمال القصير - مفكّر مغربي

أعيد في هذا المقال باختصار كتابة رواية مختبئة في تفسير فشل الإسلاميين، في السنوات الأخيرة. وأبدأ بالتأكيد على أن الهزائم السياسية ليست المسؤول الوحيد والمباشر عن أوضاعهم الحالية. فقد حجب ضجيج الإعلام والتحليلات، طيلة السنوات الماضية، قصة لابد أن تُروى لتتضح الأمور، فهنالك إذن مرض لا نراه بسهولة.

تغيير وقود السيارة

قبل اندلاع موجة الثورات العربية، لم يكن شعار محاربة الفساد والاستبداد، بالمعنى الذي رفعه الشارع العربي، عنصرا بنيويا في برامج الإسلاميين.

فقد كان مفهوم الفساد بالنسبة للكثيرين منهم مفهوما يغلب عليه الطابع القيمي، ويتعلق بمواجهة مظاهر التحلل الأخلاقي في المجتمع، والتأكيد على أهمية الالتزام بالمظاهر الإسلامية في سلوك الناس. وكانت أكبر المعارك ضد الفساد ترتبط لديهم بالقوانين الخاصة بالأحوال الشخصية. كما أن بنية برامج عمل الإسلاميين تركزت، أساسا، على تقوية البعد التربوي والتعليمي للناس.

لقد كانت سيارة الإسلاميين تسير بوقود "الفكرة الأخلاقية"، وفجأة، بسبب اندلاع الثورات في الشوارع، غيروا نوعية وقود السيارة لمواكبة موجة مواجهة "الفساد والاستبداد".

مواجهة الفساد

وعلينا أن ننتبه هنا إلى أمر أساسي، وهو أن الشارع العربي لم يكن يفهم الفساد بالطريقة التي يفهمها الإسلاميون، ولا على نمطهم. فالفساد في نظر الناس، في تلك المرحلة، كان يعني مواجهة نهب الثروات وغياب العدالة الاجتماعية وانتشار الفقر والبطالة.

نعم لقد جرب كثير من الإسلاميين المشاركة السياسية، قبل الثورات العربية، لكن معارك مواجهة الاستبداد لم تكن خطة أو برنامجا عمليا، فقد كانت غايتهم من المشاركة السياسية خدمة الناس وإصلاح الشأن العام.

وكانت المعارك التي يخوضونها من داخل البرلمان تتركز حول الدفاع عن الهوية واللغة، مع هامش لانتقاد السياسات العمومية في مجال الاقتصاد. وأقصى ما كان يطالب به المصريون، هو منع توريث مبارك لابنه، لا تغيير النظام.

بمعنى أدق، فإن الشارع العربي كان أكثر جذرية منهم، فقد أجبرهم، في لحظة معينة، على تغيير مسارهم، وتغيير وقود سيارتهم كاملا، دون أن يكونوا على استعداد لتبعات ما سيحصل لاحقا، ولا حتى تصور طبيعة المستقبل المقبل.

وقد فوجئوا بشعارات رفعها الناس، ولم يتعودوا هم على رفعها من قبل؛ مثل شعارات إسقاط الأنظمة، والمطالبة بالرحيل، وإعادة توزيع الثروات.

وفي لحطة حرجة، وجد الإسلاميون أنفسهم مخيرين بين أن يظلوا إصلاحيين فقط كما اعتادوا، أو أن يتحولوا إلى ثوريين.

فاختار المغاربة أن يبقوا إصلاحيين، وأن يعملوا على تبريد الأجواء في الشارع، وتخفيف حدة المطالبة بمواجهة الفساد والاستبداد ووضع سقف محدد لمطالب الشارع، وإعادة الناس إلى خانة الإصلاح لا الثورة.

واضطر الثوريون من المغاربة أن يقفوا أيضا، عند عتبة الإصلاح، دون تجاوزها، وكان العامل المشترك بين الجميع هو تغيير الوقود، بشكل كامل.

تضرر فكرة التدرج

أما الإسلاميون في مصر وتونس وليبيا، فقد لحقوا بالموجة أيضا، وتخلوا بعد تردد وترقب، عن إصلاحيتهم ومراجعاتهم السابقة، وركبوا موجة الثورة.

لقد تخلى الجميع عن برامجه الخفيفة، وقرروا بشكل أو بآخر أن يخوضوا في ما خاض فيه الناس وفرضه الشارع، من التحول إلى مربع مواجهة الفساد والاستبداد، بمعنى وشكل مغاير، أفقد الإسلاميين معان قديمة أساسية كانوا يعتقدونها؛ مثل التدرج في الإصلاح.

والواقع أن فكرة التدرج تعرضت لهزة كبيرة. وفي رأيي، فإن السرعة التي باتت تطبع النشاط الإنساني، عموما، وتسارع حركة التاريخ، يجعل التدرج كوسيلة للعمل فكرة أقل فاعلية، في زمن تحدث فيه التحولات، من خلال حركة الكتل والموجات الكبيرة.

لقد كانت الأمور تمضي بسرعة تفوق السرعة التي كان الإسلاميون يرون أن التغيير يتطلبها، فقد فرضت عليهم التحولات السريعة أن يتركوا مشروعهم، ويركبوا مركبا جديدا، بات من الصعب لاحقا العودة إلى ما قبله، مرة أخرى، وفق النمط السابق.

وبفعل التحولات، وجد الأتباع والمتعاطفون أنفسهم داخل مشروع احتجاجي لا دعوي، وهو مختلف في وسائله وأهدافه انخرط فيه قادتهم.

إن الكلمات التي حفظوها في محاضنهم ومجالسهم لا تخدم كثيرا المرحلة الجديدة للثورات. وحتى ما كانوا يؤمنون به؛ مثل الدولة الإسلامية، والشريعة، مما له علاقة بالسياسة، لم يكونوا يخرجون لأجل المطالبة به في الشارع. لقد تحول الأمر حينئذ، إلى ما يشبه القطار الذي خرج عن السكة.

غير أنني أشير هنا، إلى أنه حتى حركة "حماس" تحملت نتيجة تغيير الوقود المفاجئ، وكلفها ذلك قطيعة دامت عشر سنوات مع النظام السوري. وحاولت إصلاح الأمر، بعد سنوات عديدة، خاصة أن سوريا كانت قاعدة نضالية أساسية بالنسبة إليهم، وجر عليها هذا الأمر انتقادات عديدة.

صعوبة العودة للقديم

لم يدرك الكثيرون أن العودة من مربع السلطة والسياسة بعد الفشل سيكون بالغ الصعوبة، فقد تزود الناس بوقود غير الوقود السابق.

إن المرحلة الحالية تطرح عليهم إما خيار العودة إلى القديم وترميم هويتهم، ونسج قصة دعوية جديدة لإقناع الجيل القادم، ممن لم يشهدوا انهيار التجربة السياسية. أو من ناحية أخرى، الاستمرار في التمسك ببقايا الخطاب السياسي الذي أنتجوه، بعد الثورات العربية.

إن الفشل سياسيا، كشف لاحقا، صعوبة عودتهم إلى الدعوة قريبا، وكشف طبيعة الميول والنوازع النفسية الجديدة للإسلاميين.

فهم لم يعتبروا فشلهم السياسي ابتلاء قد أصابهم، وفق ما آمنوا به من قبل. ولو اعتبروه ابتلاء، لما انكفأوا ثقافيا ودعويا، ولكانوا استمروا في اعتبار تلك المرحلة استثناء.

إن بناء قصة جديدة أمر معقد، ذلك أن شخصا؛ مثل حسن البنا، استطاع بناء قصة، في سياق عرف سقوط الخلافة والاحتلال الأجنبي وتضرر الهوية الإسلامية، والأهم من ذلك، شعور الناس بارتفاع المخاطر المحيطة بالإسلام والمسلمين. ولذلك، سيبدو منطقيا أن تجد شخصا؛ مثل أمين عام حزب العدالة والتنمية المغربي يبحث عن فرصة تاريخية، يمنحه إياها خصومه بخطأ جسيم يمس هوية وقيم المغاربة، لإعادة امتطاء الموجة وحشد الأنصار الجدد لإعادة كتابة قصة جديدة.

لم يكن لدى الإسلاميين خبرة في مواجهة الاستبداد، وهناك إسلاميون في المغرب تبنوا، منذ التأسيس، خطاب محاربة الاستبداد، لكنهم لم يمتلكوا أبدا الأدوات أو الخبرة في هذا المجال.

وأنا هنا، أتحدث عن الخبرة المتراكمة، التي تعني التمرس بالتعامل مع الدولة، بكل مكوناتها الداخلية.

وكان من حظ الأتراك أن خبرتهم في مقارعة الاستبداد والفساد كبيرة، فكانوا يدخلون، بالتدريج، في دواليب السلطة، منذ عقود. ولا يُحل لهم حزب حتى يؤسسوا غيره، ثم ينخرطون، مرة أخرى، في دائرة الصراع السياسي، الذي كانت الهوية والقيم جزءا بسيطا منه. إنهم يخوضون الصراع السياسي بالأصالة، ويحققون أهداف الهوية بالتّبع. وهي معادلة مقلوبة في المنطقة العربية؛ حيث يخوض الإسلاميون صراع الهوية بالأصالة، ليحققوا بعض المكاسب السياسية بالتّبع.

لقد تعلم الأتراك أساليب التعامل مع مجموعات الجيش والنظام والقوى واللوبيات المختلفة في داخله. وأفضى الأمر، بعد زمن طويل، من التفكيك لبنية الفساد والاستبداد، إلى الوضع الذي هم عليه حاليا. إنني لا أجد إطارا أيديولوجيا مناسبا أضع فيه الأتراك. ففي إصلاحيتهم ثورية هائلة، وهم كانوا مهتمين فقط بمراكمة خبرة التعامل مع الاستبداد والفساد.

وهذا الواقع مخالف تماما للتجربة الإسلامية العربية، التي كانت فيها مجابهة الاستبداد أمرا نظريا، غاية ما فيه الاحتفاء المحدود بكتاب عبد الرحمن الكواكبي "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".

إن التحول من الوقود الإصلاحي إلى الوقود الثوري، فجأة، قد أربك أغلب المجموعات. ذلك أن الفكرة الإصلاحية لها سقف، إذا تجاوزته، تصبح ثورية بسرعة.

إن التاريخ يقول لنا إن التحول من الثورية إلى الإصلاحية له عوائد وميزات لأصحابه، الذين غالبا ما يصبحون جزءا من السلطة، مستفيدين من ثمارها. وهو أسهل من الانتقال من الإصلاحية إلى الثورية. ففي هذه الحالة، تكون التضحيات والدماء والابتلاءات في انتظار الجميع.