يتجه المغرب نحو عقد مناظرة وطنية حول الجباية في ماي المقبل. مناظرة يراد منها التوصل إلى تصور حول نظام جبائي، يتجاوز اختلالات النظام الجبائي الحالي. في هذه الحوار مع محمد برادة، رئيس اللجنة العلمية المشرفة على الإعداد للمناظرة، نتساءل حول طبيعة النظام الجبائي المأمول في علاقته بالنموذج التنموي الذي لم تتضح معالمه بعد، هذا ما يدفع برادة، الذي كان وزيرا للمالية في ظل برنامج التقويم الهيكلي، إلى التشديد، في الجزء الأول من هذا الحوار، على أن الجباية ليست سوى أداة من أدوات التنمية، والتي يفترض وضعها ضمن تصور شامل، يستحضر التربية والحكامة والروابط الاجتماعية وأولويات السياسية الاقتصادية ومدى اتجاهها نحو تغليب القطاعات الإنتاجية، التي توفر فرص عمل دائمة، مقلصة دائرة البطالة والفوارق الاجتماعية.
يستعد المغرب لعقد مناظرة وطنية للجباية في الثالث والرابع من ماي المقبل. باعتباركم تترأسون اللجنة العلمية التي أعدت المذكرة التأطيرية للمناظرة، نود أن توضحوا لنا السياق التي يأتي فيه هذا الحدث؟
بلور المغرب إصلاحا جبائيا في الثمانينات من القرن الماضي، في ظل برنامج التقويم الهيكلي، الذي كنا انخرطنا فيه في فترة جد صعبة. فقد كان المغرب عرف انزياحا كبيرا على المستوى الموازني في سنوات السبيعينات. أنفقنا الكثير من المال، واستدنا بالعملة الصعبة من الخارج، وفي لحظة معينة لم نعد نتوفر على على ما نفي به بما في ذمتنا من ديون، وعندما لا تؤدي، يجب عليك أن تطلب ديوننا جديدة من أجل تأمين الإنفاق، ومن أجل ذلك يجب الخضوع لامتحان أمام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وهذا ما قمنا به، فقد وضعنا بمعية هاتين المؤسستين، من أجل الاستمرار في الاستدانة وإعادة جدولة الديون، برنامجا للتقويم، الذي يقضي بتقليص النفقات وزيادة الموارد بهدف تقليص عجز الخزينة، بالموازاة مع إطلاق إصلاحات هيكلية، التي تهم إصلاح الجباية من أجل تعظيم الموارد، وإصلاح التجارة الخارجية والمؤسسات العمومية والخوصصة والأسواق المالية والمحاسبة…
وكنتم أنتم، باعتباركم وزيرا للمالية آنذاك، قد أشرفتم على تطبيق الإصلاح الجبائي الذي أملاه التقويم الهيكلي؟
كان قانون إطار خاص بالجباية، قد بلور في 1984 من قبل وزير المالية آنذاك عبد اللطيف الجواهري، وعندما توليت أمر تلك الوزارة في 1986، شرعت في تطبيق مقتضيات القانون الإطار، حيث فعلت الضريبة على القيمة المضافة والضريبة على الدخل، التي سميت آنذاك الضريبة العامة على الدخل، والضريبة على الشركات، التي كانت في السابق "الضريبة على الأرباح المهنية"، بالإضافة إلى ضريبة التضامن الوطني. في السياسة التي تم تبنيها، هدفنا إلى توسيع الوعاء الجبائي، وخفض معدلات الضريبة، ما دامت الضريبة على الشركات خفضت من 44 في المائة إلى 30 في المائة.
يجب التوجه نحو ملاءمة السياسة الجبائية التي ليست سوى أداة لنموذج التنمية الذي يجب وضعه وتفعيله
هكذا بدأت الموارد الضريبة في التحسن وخرجنا من دورة إعادة جدولة المديونية. وقد اعتمدنا البند الثامن من قوانين صندوق النقد الدولي، الذي سمح للمغرب بتطبيق مبدأ تحويل الدرهم على مستوى العمليات الجارية. وشرعت العجوزات الخارجية والداخلية في التراجع. فقد كان العجز الخارجي جد مرتفع ولم نكن نتوفر في السابق على رصيد من النقد الأجنبي، ما فرض علينا إعادة الجدولة، والحال أن رصيد النقد الأجنبي هو السلاح الحقيقي لأي بلد. لقد كان ذلك أول تحديث لنظامنا الجبائي، على اعتبار أننا كنا نتوفر في السابق على ضرائب متفرقة. فعبر القانون الإطار رسخنا نظاما جبائيا يتكون من الضريبة على القيمة المضافة والضريبة على الدخل والضريبة على الشركات، والذي اكتمل في 1992 بالجباية المحلية. ومع تواصل القوانين الجبائية، اتخذت العديد من التدابير..
غير أن تلك التدابير كانت في أغلبها قطاعية أو فئوية، ألم يغير ذلك طبيعة النظام الجبائي الذي أريد ترسيخه عبر القانون الإطار؟
لقد جرى تبني تدابير تبعا لضغط هؤلاء وأولئك. وقد حاولنا خلال مناظرة 1999، تقويم النظام الجبائي، غير أنه غالبا ما يتم وضع بعض التقويمات عبر القوانين الإطار، التي لا تطبق، في غالب الأحيان. ولقد نظمنا المناظرة الثانية في 2013، حيث جرى تبني عدد من القواعد، بعضها طبق والبعض الآخر لم يفعل. واليوم وصلنا إلى المناظرة الثالثة. هذا إيجابي لأننا واعون بأنه يجب تطوير الأمور. فالعالم تغير والبيئة تغيرت والعولمة تغيرت.
نعتبر أن كل إصلاح جبائي، يجب أن يتلاءم مع النموذج التنموي الذي سنختاره
نحن في عالم يتحدث عن الذكاء الاصطناعي، وتطوير تكنولوجيات جد سريعة مستندة على النانو التكنلوجي والبيوتكنولوجي والثورة العلمية، ما يجعل الأمور تتطور بسرعة. وقد حان الأوان، كي نرى إمكانيات ملاءمة وتكييف جبايتنا بالنظر للتحولات التي يعرفها المحيط. لدينا أمور جيدة، وأخرى لا تعمل كما نريد. ونحن ننكب على وضع تشخيص حول وضعية الجباية بالمغرب.
لكن قبل التشخيص، تطرح مسألة التناقض الذي يمكن أن يطرح عند وضع سياسة جبائية جديدة في الوقت الذي مازال المغرب لم يعلن عن تفاصيل النموذج التنموي الجديد؟
قلنا إنه يجب التوجه نحو ملاءمة السياسة الجبائية التي ليست سوى أداة لنموذج التنمية الذي يجب وضعه وتفعيله. فإلى حدود الآن، مازلنا ننتظر ذلك النموذج. هناك الكثير من النقاش، الجامعات تنظم نقاشات حول هذا الأمر ويرجح أن تكون أحزاب سياسية بصدد النقاش حول النموذج المأمول، غير أن الحكومة لم تعمد، إلى حدود الآن، إلى الكشف عن سياسة جديدة للتنمية. ونحن نعتبر أن كل إصلاح جبائي يجب أن يتلاءم مع النموذج التنموي الذي نتختاره، وما دمنا لا نتوفر على ذلك النموذج، فقد قلت لهم، لننس الآن أمر النموذج، ولنحاول، على الأقل، تطبيق ما طالب به جلالة الملك.
ماذا يعني ذلك؟
أستحضر ثلاثة خطب ملكية؛ فالخطاب الأول، الذي نسترشد به، يؤكد على أنه في أية استراتيجية للتنمية أو اتخاذ القرار من قبل الحكومة، يجب الأخذ بعين الاعتبار الرأسمال اللامادي، والذي يتضمن ثلاثة عناصر، متمثلة في الرأسمال الإنساني والرأسمال المؤسساتي والرأسمال الاجتماعي. هذه العناصر الثلاثة هي التي تشكل سبب معاناتنا. فعندما تريد صناعة سلعة ما، فأنت تتوفر على الرأسمال المادي، لكن عندما لا تتوفر على المعرفة والخبرة حول طريقة تصنيع تلك السلعة، تقع في مشكلة. واالرأسمال اللامادي، يتكون من الذكاء البشري والمعرفة. وهذا يطرح مشكلة التربية. وهذا مكمن ضعفنا الأول، علما أنه بعد 60 عاما من الاستقلال، مازال ثلث الساكنة لا يعرف القراءة والكتابة. وهذا مخيف.
لماذا؟
لأننا، إلى اليوم، نعلن عن أننا بلغنا 100 في المائة من التمدرس للأطفال من ست إلى سبع سنوات، غير أنه ثلاثة أعوام بعد ذلك، يغادر 30 في المائة من تلك الساكنة المدرسة، التي تبقى أمية وتلتحق بحيش الأميين. وهذا يعود إلى أننا لم نتصد لمشكلة التربية منذ البداية. فقد نسينا أن تمدرس الطفل يبدأ منذ ولادته، أي التعليم الأولي. ونحن لا نتوفر على حاضنات للأطفال. ويجب أن نعلم أن الذكاء الإنساني، من الناحية البيولوجية، يتطور بين عامين وخمسة وستة أعوام بالنسبة لـ90 في المائة من الذكاء. ففي هذه السن، يستوعب الطفل كل شىء. لقد أغفلنا أنه يجب الشروع في تربية الأطفال في هذه السن. فبعد هذه السن يحب المدرسة، ويستمر مساره الدراسي.
يفترض في الحكومات، عدم التعاطي مع المشاكل الآنية، بل يتوجب عليها، توقع الأمور قبل حصولها
وقد دعا جلالة الملك إلى الانخراط في التعليم الأولي، غير أن الحكومة لا تقوم بأي شيء. ومشكلة الحاضنات يجب أن يعالج عبر مقاربة القرب، ما يستدعي انخراط الجماعات الترابية. ونحن نلاحظ أنه بسبب عدم وجود هذا النوع من التعليم، لم يعد الناس يلدون كثيرا، ما يفضي إلى انخفاض الخصوبة، التي تقود إلى شيخوخة الساكنة، التي تشكل تهديدا للبلد، لأن الساكنة التي تبلغ 60 عاما، والتي ترتفع عاما بعد آخر، لن تجد أبناء كي يعتنوا بهم، خاصة عندما لا تتوفر على معاش تقاعد، لأنها لم تساهم بسبب عدم حصولها على عمل في السابق.
وعلى هذا المستوى، يفترض في الحكومات عدم التعاطي مع المشاكل الآنية، بل يتوجب عليها، توقع الأمور قبل حصولها والاستعداد للمستقبل. والحال، أن الناس لا يريدون تحمل المسؤولية. فعندما لا تقوم بأي شىء، تتدهور الأمور، ويصعب، بعد ذلك، معالجتها. نحن ما زلنا في الحديث عن هذه الأمور الخاصة بالتربية دون أن نتقدم في الحل.
ماذا عن المستويين المتمثلين في البعد المؤسساتي والاجتماعي؟
لم نقم على المستوى المتعلق بالحكامة بأي شىء. اذهب إلى أية جماعة محلية من أجل إنجاز مشروع استثماري، سيسألونك حول ما سيأتي به ذلك المشروع لهم. لا يدركون بأن المصنع الذي ستحدثه، سيساهم في خلق فرص العمل، وستحصل الجماعة على ضرائب، بما لذلك من تأثير على الاستهلاك والضريبة على القيمة المضافة. أما على مستوى الرأسمال الاجتماعي، فإننا نلاحظ تفاقم الفوارق مع اتساع دائرة البطالة، مايؤدي إلى انفراط الروابط الاجتماعية، ما يؤثر على الانسجام الاجتماعي.
نلاحظ تفاقم الفوارق مع اتساع دائرة البطالة، مايؤدي إلى انفراط الروابط الاجتماعية
وهذا خطير ويستدعي أن يدرس. هذه الأمور يمكن أن نستشفها في الخطاب الأول لجلالة الملك، هذا يقودنا إلى الخطاب الثاني، الذي أشار فيه إلى المرضين الذين يعاني منهما المغرب؛ ويتمثل الأول في بطالة الشباب، خاصة الحاصلون منهم على شواهد، فمع تقدمنا في المسار الدراسي في المغرب نكون عرضة للبطالة، هذا يعني أن نظامنا التعليمي غير جيد.
لكن النظام التعليمي ليس السبب الوحيد في هذا الوضع، أليس كذلك؟
صحيح، التعليم ليس السبب الوحيد، فنحن نلاحظ أن الأشخاص الذي لا يتوفرون على أية شهادة تصل البطالة بينهم إلى 4,5 في المائة، بينما يبلغ بين الحاصلين على شهادات 26 في المائة. هذا يعني أن الاقتصاد لم يتطور كي يستوعب الأشخاص الذين قاموا بدراسات عليا. هذا يعني أن سياستنا الاقتصادية ليست جيدة.
قبل عشرين عاما، كان الاقتصاد يخلق 160 ألف فرصة عمل، بينما اليوم لا نتحدث سوى عن 50 ألف فرصة عمل، هذا ما دفع إلى ارتفاع معدل البطالة، لأنه في الاقتصاد هناك ثلاثة قطاعات متمثلة في الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات، والحال أن قطاع الصناعة اندثر. من الجيد أن تكون لديك مجموعات مثل "رونو" أو "بوجو"، لكن لا يمكنها أن تخلق جميع فرص العمل التي يحتاجها المغرب. هناك العديد المصانع التي أغلقت، لأننا لم نتوفر على سياسة تقوم على تدعيم إمكانياتنا الصناعية وتحسين الإنتاجية التي تقوم على المزاوجة بين مساهمة الرأسمال المادي والرأسمال اللاماي. لقد استثمرنا كثيرا في في البنيات التحتية، صحيح أن المغرب تحول، لكن دون أن نحدث فرص العمل.
جميع الاستثمارات لا تذهب لمصانع مغربية، بل تذهب لشركات أجنبية
لقد وصل معدل الاستثمار العمومي قياسا بالناتج الداخلي الخام إلى 32 في المائة، غير أن ذلك لا يحفز النمو ولا يخلق فرص العمل. والنتيجة أنه ليس هذا النوع من الاستثمارات الذي سيخلق فرص عمل دائمة. فعندما تمد طرقا وقناطر، ستحدث فرص عمل، خلال فترة الأشغال فقط، بالموازاة مع ذلك، لا نتوفر على ما يكفي من الوحداث الإنتاجية في الصناعة التي تتيح فرص عمل دائمة. للأسف، فتحنا الحدود ووقعنا اتفاقيات ثنائية مع العديد من البلدان، ونريد تطبيق سياسية ذات نفس "كينزي"، حيث أن الدولة تستثمر من أجل حفز النمو، غير أن جميع الاستثمارات لا تذهب لمصانع مغربية، بل تذهب لشركات أجنبية. هذا ما يدفعني إلى القول إنه لا يكفي الإتيان من أجل بسط السياسة الجبائية، بل لابد من الحديث عن مشاكلنا وكيف يمكن للسياسة الجبائية أن تساعد على حلها. وقد قال جلالة الملك، في خطابه الثاني، إننا نتوفر على بطالة كبيرة، خاصة بين الشباب، ما يغذي الفوارق. صحيح أن الدخل الفردي تحسن، غير أننا نتوفر على طبقة جد غنية، ما يعمق الفوارق مع الفئات الأخرى.
كيف يمكن تجاوز هذا الوضع؟
هذا هو جوهر الخطاب الثالث المهم لجلالة الملك. نموذجنا التنموي لا يخلق النمو والشغل. فخلال العشرين سنوات الأخيرة، كان معدل النمو متراوحا بين 3 و3,5 في المائة. هذا غير كاف من أجل معالجة مشاكل البطالة، خاصة أن النمو سىء من حيث الكيف. إنه نمو يرتهن للتساقطات المطرية وشركائنا الخارجيين.
اليوم يقول الأمريكيون "أمريكا أولا"، و نحن نقول "الأجنبي أولا"
لا نتحكم في مصيرنا بسبب الارتهان للأمطار، غير أنه لايجب الارتكاز على الفلاحة، يجب أن يتجه البلد نحو التصنيع. فالصناعة هي التي تخلق فرص العمل المباشرة وغير المباشرة. والحال أننا فقدنا صناعتنا وأبرمنا اتفاقيات كي تذهب مواردنا إلى الخارج. فقدنا الحس الوطني. بعد الاستقلال كنا نتحدث عن الوطنية ونعطي الأولوية للمغرب. اليوم يقول الأمريكيون "أمريكا أولا"، و نحن نقول "الأجنبي أولا" إلى درجة أننا أنجزنا تحقيقا، اكتشفنا، عبره، أن 82 في المائة من الشباب يحلمون بالهجرة إلى الخارج. هذا مخيف. هذه هي المشاكل الحقيقية التي نعاني منها. فنمونا دوري Cyclique وغير مستقر، وغير إدماجي Inclusif.
ماذا يعني ذلك؟
نحن ننخرط في سياسات قطاعية دون خلق علائق بينها. ففي فترة من الفترات، اكتشفنا أننا لا نتوفر على ما يكفي من المساكن الاجتماعية، فقررنا دعم المنعشين العقاريين، عبر إعفائهم من الضريبة على القيمة المضافة و الضريبة على الشركات، ورأينا كيف اغتنت بعض المجموعات العقارية وكيف أصبح المصنعون، يحولون نشاطهم إلى العقار. كان يمر ذلك دون أن يثير أحدا. والجميع أضحى يبحث عن أنشطة لا تشغل كثيرا من اليد العاملة مثل العقار والتجارة. هذه الحقيقة لا نتحدث عنها.
أنا أرى مصانع تغلق، وتمر الأمور عادية، بينما في بلدان أخرى يبحث الناس عن حل لمثل هذه الأوضاع. ففي أوروبا، إذا كان سيغلق مصنع بسبب واردات من الصين، تتخذ تدابير من أجل حماية الإنتاج المحلي، بينما نحن نفضل المنتوج الأجنبي. لقد دعمنا العقار وأعفينا المنعشين من الضريبة، بينما هم شرعوا في استيراد كل المواد من الخارج، يشترون الأبواب والزليج من الخارج، بينما يغلق الصناع المحليون محلاتهم ومصانعهم. الحديد يأتي من إسبانيا وتركيا، بينما تعاني الشركات المحلية. كان يتوجب على من أعطوا الإعفاءات للقطاع، أن يبحثوا عن أثر ذلك على القطاعات الأخرى. هذه النظرة حول العلاقة التبادلية بين القطاعات هي التي نفتقدها.