يجرنا الحديث عن أفلوطين إلى إثارة قضية تجديد المناهج الفلسفية وإعادة قراءة فلاسفة بعينهم وإن كانت بطبيعة الحال قراءة داخلية تروم صقل وتقويم ما تم إغفاله، أو تبيئة ما تم تقديمه سلفا وجعله مسايرا لروح الحاضر. كان أفلوطين من بين الأوائل الذين سلكوا هذا الطرح في الفلسفة، ولهذا فقد صنف بعدئذ من بين المجددين للأفلاطونية. من ثمة كيف قرأ أفلوطين أفلاطون؟ وهل بقي حبيس أستاذه أم أن له من الجدة من يجعله من مصاف الكبار؟
عندما نعود إلى أفلوطين نلمس عن كثب تلك النفحة الروحانية الدينية التي تميزت بها فلسفته، وهي للإشارة بادية بشكل كبير إزاء تأملاته في الأخلاق كما الميتافيزيقا. يرى أفلوطين باذئ ذي بدء أن العالم يتكون من جواهر روحية متراتبة على رأسها الأول يليه بعد ذلك العقل أو النوس بلغته الخاصة، ثم تأتي الروح. إذا تأملنا هذه السلسلة سنقول عن العالم التراتبي تحدث عنه فلاسفة كثر من قبيل فيتاغورس وأفلاطون وأرسطو، إلا أننا سنعثر في هذا الشأن على لمسة أفلوطين التي حاولت السير على نفس المبدأ الذي سار عليه أفلاطون، لكنه سيختلف معه في كيفية إدراك الأول باعتباره فكرة، فإذا جعل أفلاطون من الفكرة قوة حاضرة بمعزل وبمنأى عنا، فإن أفلوطين يرى في الأمر عيبا منطقيا.
هكذا يؤكد على ضرورة إدراك الأول ـ وهو المقابل لفكرة الإله في الديانات السماوية ـ بطريقة سلبية، أي الانطلاق من الأعيان للكشف عن المستور المتخفي والذي هو في الحقيقة أصل الأعيان. هكذا سيكون من العيب المنطقي أن نضفي صفة الكينونة على الأول لسبب بسيط يكمن في ان الكينونة محدودة لأنها منفعلة، بينما الأول غير محدود لأنه فاعل، ومنه فإن الأول خارج فعل الكينونة حيث تنتفي عنه هذا الصفة وإلا ستصبح الكينونة أكثر قوة من الأول وهذا خطا.
ومن جانب ثان ستجد اللغة نفسها عاجزة عن وصف الأول أو معرفته، لأن لغتنا مشروطة بالكينونة أي أنها لغة محدودة بينما نحن نريد وصف اللامحدود، وفي هذا الأمر نتيجة معاكسة لما كنا نريد أي وصف أو إنتاج معرفة سديدة حول الأول، إلا أن الحديث بالسلب يمكنه أن يفضي بنا إلى اعتبار الأول ليس هو الكينونة لأسباب ذكرنا سلفا، وهو ليس جوهرا أيضا لأن الجوهر بدوره محدود، كما أنه ليس موضوعا للتفكير أو شيئا مفكرا فيه، لأن النظر إليه بهذا الوسم سيجعله مزدوجا ومركبا فهو يفكر أي أنه ذات، وهو في نفس الآن مفكر فيه أي موضوع. الأول أيضا ليس شخصا لأن كل شخص يتصف بالمحدودية وإمكانية التحول إلى موضوع. فأي شيء بقي لنا غير أن الأول محايد حسب أفلوطين لكن مع ضرورة التشديد على نفي تلك الصفات سالفة الذكر وإلا فإنه ستنتفي عنه صفة الأول.
ولكي لا يضفي أفلوطين على العالم طابع الفراغ حينما عرف الأول بالسلب، فقد توسل في نهاية المطاف إلى اعتبار الأول خيرا، إلا أن هذا الخير لا يعني ذلك التصور العام الذي يذهب إليه الإنسان. الخير يدل في هذا الشأن على التواصل الذاتي، الأول أول لأن له هذا القدرة، إلا أنه لا يكتفي بها لوحدها وإلا لما ظهرت عنه باقي العقول والموجودات، من هنا فإن الأول يعقل الأشياء فتفيض عنه دون أن يُعقل من طرف قوة قبله لأنه أول. كما أنه لا يجعلها موضوعا لتفكيره وإلا لأصبح تابعا لها لا متبوعا، لذا عندما يفيض الأول فإن أول ما ينتج هو النوس أي تفكير التفكير، وهو للإشارة يشترك مع الأول في صفات بعينها على غرار اللامحدودية، إلا أنه مهما علا شأنه سيبقى وجوده منفعلا بموجود له وهو الأول، أما هذا الأخير فلا شك أنه لم يوجد من طرق قوة أقوى منه ولن يكون هذا الأمر وإلا فلتنتفي عنه هذه الصفة المميزة له.
ينتج عن النوس قوة ثالثة ألا وهي روح العالم، وهي للإشارة تأكيد على الطيماوس التي تحدث عنه أفلاطون، وفي هذا الصدد يرى أفلوطين أننا نتحدث عن روح العالم وهي التي تتسيد باقي الأرواح الخاصة، وبعبارة أدق، إن تعدد الأرواح من شأنه أن يكون تحت إمرة الروح الكبرى أو الروح الكونية التي تعود لها الأرواح المنفردة المفردة. وهي للإشارة تلعب دور الوسيط بين النوس وأرواح العالم بغض النظر عن طبيعتها والنوع الحي الذي تشغله. وفي المقابل من ذلك تكتسي العلاقة بين الأول والانسان علاقة خاصة مقارنة بباقي الكائنات، أولا لأن هذا الأخير يسعى إلى معرفة الأول وإن لن يتأتى له ذلك، وثانيا للتفكير في سبب الشر الذي ينتج عن الإنسان.
وقد قلنا سابقا بأن الأول خير وليس شرا، يجيبنا أفلوطين بأن الأول زرع في الإنسان الوعي بأفعاله، ولذا فإن كل فعل مهما كانت طبيعته فغنه خارج عن تأثير الأول أي أنه من عنديات الإنسان. والحق أن هذه العلاقة تستدعي منا الوقوف عند فعل عودة الإنسان إلى الأول، في هذا الصدد يقر أفلوطين أن الإنسان يحقق العودة الكاملة على الأول عن طريق الروح لكن شريطة أن الالتزام بقوانين العالم الخيرة والتأمل في الموجودات من باب التدبر وأخذ العبرة وليس من أجل المس بها.