نافذة ثقافية مع هادي معزوز.. القديس أغسطين: للمسيحية امتدادات في الفلسفة.. للفلسفة امتدادات في المسيحية ½

هادي معزوز

           توقفنا في الحلقة السابقة عند أفلوطين بصفته مجددا في الأفلاطونية، أو باعتباره أفلاطونيا لكن بمواصفات أخرى غير تلك التي أرسى دعائمها أفلاطون نفسه. سنبقى داخل النسق الأفلاطوني وإن كنا سنتعرف في هذا القول على نموذج آخر كان له تأثيرا كبيرا على تاريخ المسيحية وقد تحولت قبلئذ إلى الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية. لم تعد المسيحية ديانة فقط، تحولت على نمط عيش وتصور عام يهتم بكبريات المفاهيم والإشكالات الأنطولوجية والإبستيمولوجية والأكسيولوجية.. من ثمة سنربط حوارا مع القديس أغسطين محاولين الإحاطة بأهم ما جاء به من أفكار وتصورات. فما هي الأسس الكبرى التي بنت صرح فلسفته؟ بل وهل يمكن اعتباره فيلسوفا أم عالم دين وقد قرر ارتداء عباءة الفيلسوف الذي قرأ المسيحية على ضوء أفلاطون، مثلما قرأ الأفلاطونية انطلاقا من المبادئ المسيحية؟

            عاش القديس أغسطين حالات مد وجزر على مستويات عدة، على مستوى حياته الشخصية والعقدية والمعرفية، إلا أن هناك بعض الأحداث التي كان لها تأثيرا عليه، لعل أولها لحظة تعميده عندما كان يبلغ من العمر 33 سنة، أي انه وعلى عكس التعاليم المسيحية لم يسمح له بذلك لحظة ولادته. وثانيها عندما كان مدرسا للخطابة في مدن عدة من قبيل قرطاج وروما وميلانو ثم تعرفه فيها على كبريات الكتابات الفلسفية خاصة إرث أفلاطون وأفلوطين، ناهيك عن لحظة عودته كرها رفقة ابنه أديودات إلى إفريقية. ورابعها الذي تمثل في تقلبه بين مدرسة وأخرى لينتهي به المطاف بعدئذ داخل أحضان الأفلاطونية. وخامسها المتمثل في تأثير القديس أمبرويز عليه وما رافق هذا الأمر من كر وفر متبادلين بين الفلسفة والمسيحية.

            عمل القديس أغسطين بداية على إعطاء فعل التفلسف نفحة مسيحية، لدرجة يصعب على المرء فيها فصل الدين عن الفلسفة وكأنهما وجدا كي يكونا معا، هناك في الأمر التباسا مرده إلى سببين، السبب الأول يكمن في أن الرجل كان غزير الكتابة، إلا أن كتاباته لم تكن من محض التأمل ولا من بنات تفكير معمق حول قضية من القضايا، وإنما كانت كتاباته مزاجية تنطلق من وإلى الظروف التي يعيش فيها وتحت إيقاعها. في حين أن السبب الثاني يتجلى في تنطع كتاباته فلا هي ضمن الدين كي نعتبرها قولا في المسيحية، ولا هي من الفلسفة الحقة كي نجعل منه فيلسوفا على غرار من سبقوه، بل إن الأمر سيزداد تعقيدا عندما سيتحدث عن الفلسفة معتبرا إياها nostra christiana philosophia أي فلسفتنا المسيحية، ماذا يعني ذلك غير شيئين، للفلسفة توجه ديني يتمثل في المسيحية، كما أن لها توجها جغرافيا وسياسيا ولغويا لا يخرج عن تخوم الإمبراطورية الرومانية. إذا سرنا وفق هذا التصور يمكن القول أن كتابات القديس أغسطين في الأصل ثيولوجيا، أي أن منهجها فلسفي وموضوعها ديني محض. وفي معرض آخر يصف القديس أغسطين الفلسفة بوصفها de doctrina christiana أي النزعة المسيحية التي لا تقف على تربة الإيمان فقط، وإنما تتعدى ذلك إلى صفة نزعة لها مبادئ مؤسسة كما لها موضوعها المحدد وموقفها المبني بواسطة المبادئ.. فهل سنصنف القديس أغسطين ضمن خانة الفلاسفة أم الثيولوجيين؟

            يجيب الرجل نفسه بنفسه، المسيحية بالنسبة إليه ليست عقيدة فقط وإنما تصور للعالم، هكذا فإن لها موضوعات كتلك التي اهتم بها الفلاسفة، أما على المستوى الثاني فإنه لا يرى أي فرق بين فلسفة أفلاطون من جهة، وتعاليم المسيحية من جهة ثانية، وبعبارة أدق، يمكن العثور على أفلاطون في المسيحية، كما يمكن إيجاد المسيح في الأفلاطونية، يرى القديس أغسطين في هذا الصدد أن الأفلاطونية تخدم المسيحية من حيث لا تدري.

            عندما نعود إلى الكتب التي تركها القديس أغسطين نجد أغلبها أن لم نقل كلها لا يخرج عن ثلاث مباحث فلسفية، أولها نظرية المعرفة وثانيها الفيزياء او ميتافيزيقا الطبيعة، بينما ثالثها يرتبط بالأخلاق ثم السياسة. الخيط الجامع المانع بين المباحث سابقة الذكر سيجده الناظر إلى تاريخ الفلسفة مجرد إعادة كتابة أفلاطون بلغة لاتينية بداية، وتحت سلطة التعاليم المسيحية تثنية، وكأن هاجس الرجل ينحو إلى إضفاء طابع عقلاني على المسيحية بدل الطابع العقدي لوحده.

            يرى في نظرية المعرفة مثلا أننا ندرك أشياء العالم الخارجي ونفهمها انطلاقا من الحواس، إلا أن هذه المعرفة ناقصة لا تتجاوز مستوى الحس المشترك أو الرأي إن صح القول، من ثمة كان توسلنا أكبر للفكرة، وبلغة القديس أغسطين فإن الأشياء الخارجية تعود إلى الأشياء الداخلية التي تنتهي إلى بدورها إلى ما هو سام. الخارج غير كاف لأنه يدرك لا يخرج عن الاتصال المباشر الذي تمنحه لنا الحواس، بينما الفكرة عمل مضن أداته العقل ونشاطه التفكير. المعرفة الحسية حسب القديس أغسطين توقعنا في أفكار مظللة ظنية ومشكوك في أمرها، بينما المعرفة العقلية تقودنا إلى الفكرة المبنية الواضحة. والحق أنه عندما نقرأ هذا الأمر على ضوء تاريخ الفلسفة نكاد نقول أن فيه نفحة ديكارتية قبل ظهور ديكارت، أولم يعتبر أغسطين أن الشك هو الطريق الأول نحو الكينونة؟  وعليه، فإن العقل والتفكير رحلة تتم من الأعلى نحو الأسفل، رحلة تبدأ من معطيات الحواس ثم تنتهي إلى الفكرة. العقل نور فطري منحه لنا الإله لشيئين وهما إدراكه أولا ثم تدبر العالم الخارجي على المستوى الثاني، علما أن هذا التدبر لا يخرج عن نطاق الحواس التي ينتهي عملها بسرعة لصالح العقل.