توقفنا في الحلقة الماضية عند أسس نظرية المعرفة لدى القديس أغسطين، وقلنا إنها مبنية بناء أفلاطونيا، أي بناء تراتبيا ينطلق من الحواس كي يبلغ الخير الأسمى، والحال أن الانطلاق من الحواس ليس سوى إشارة ضمنية على ضعف نجاعتها في فعل التفكير كما الإدراك، معطيات الحواس محدودة بحدود مجال إدراكها، اما معطيات العقل فإنها تتميز بقدرة هائلة على إنتاج معرفة تعجز الحواس على إدراكها.
يميز القديس أغسطين في هذا الصدد بين نوعين من العقول، الأول يسمى بالعقل الأدنى ratio inferior وهو الذي يكتفي بمراقبة الأشياء والتفكير داخل مجال التجربة الحسية لا غير، أي الارتباط بمواضيع معينة على غرار أفعال وتصرفات الإنسان ومشاعرهم وعلومهم.. العقل الثاني حسب القديس أغسطين هو العقل الأسمى ratio superior عقل يفكر في أكثر الأمور والمواضيع تجريدية وصعوبة مثل معرفة الإله وكيفية امتلاك الحكمة والقدرة على تأمل الكون.. يحيلنا هذا التقسيم سابق الذكر على نوعين منم المعرفة وهما المعرفة الداخلية ثم المعرفة الخارجية، المعرفة الأولى عبارة عن معطيات فطرية تسكن عقل الإنسان، بينما الثانية يتم اكتسابها عن طريق التحصيل كما الوسط الذي يعيش فيه الفرد.
يحدث تفاعل كبير بين العقلين فينجم عنهما ثلاثة أشكال، إلا أنها مشروطة سلفا بقوة إلهية هائلة، يرى القديس أغسطين تبعا لهذا الأمر أن الإله يضع في روحنا نورا يساعدنا على إدراك وفهم أشياء العالم الخارجي إضافة إلى معرفته هو الآخر، هكذا فإن الإله يمنح النور للعقل الأدنى من أجل معرفة ما يحيط به عن طريق إدراكات الحواس التي سبقت الإشارة إليها أعلاه، ثم يمنح النور أيضا للعقل الأعلى بغية معرفة المبادئ الأولى وأيضا بغية معرفة الإله، والحق أن هذا الإضاءات سواء الأولى أو الثانية، يضعهما القديس أغسطين داخل المجال الطبيعي، ثم يضيف إليهما الإضاءة الثالثة وهي للإشارة فوق طبيعية تتعلق بالإيمان وبلوغ درجة إدراك معنى الوحي وخوارقه.
نصل الآن إلى العمود الثاني الذي بنى صرح الأغسطينية، والحديث هنا عن الجانب ميتافيزيقا الطبيعة، أو الفيزياء بلغة الفلاسفة الذين كانوا قبله، عندما نتأمل رأيه في هذا الشأن نعثر على نفحة أفلاطونية حاضرة بشكل كبير، الأمر الذي من خلاله يقر أن الإله سببا مثاليا لأن له قدرة خارقة على التفكير في العالم الذي سيخلقه قبل أن تكون له إرادة خلقه، هكذا فإن أي شيء يخلقه الإله إنما يخلقه على صورته بدافع الحب، ومن ثمة فإن صور الأفكار التي في عقولنا هي في الأصل انعكاسات لصور إلهية قبلية، الأمر الذي من خلاله نتمكن من بلوغ حقيقة الأشياء ووظائفها وقيمتها.
يختلف القديس أغسطين عن الإغريق في أمر مهم وهو إتيانه بفكرة جديدة موسومة بالبداية المطلقة، وهي بداية تشمل شيئين ألا وهما العالم والزمن، في هذا الصدد يرى أن خلق العالم هو خلق الزمن كبداية مطلقة، وهي بداية تتدفق نحو الأمام دون العودة الأبدية للشيء. الزمن حركة أمامية لا تعود إلى الوراء ولا تتوقف أيضا، وسبب ذلك يعود لفعل الخلق، وهو للإشارة فعل غير مكتمل يسعى لبلوغ الكمال، الأمر الذي يجعل منه حركة أمامية تقدمية مستقيمية ومستمرة إلا أنها ستنتهي على الإله مادام أنه خالقها الأول والأخير. هكذا فإن العالم يسير في الزمن والزمن يتحرك وفق إرادة العالم كسعي لمعانقة المطلق وبلوغ الأصل إي الإله. لم نعد هنا امام حركة دائرية مستمرة على غرار ما تصوره الإغريق، وإنما بتنا إزاء وضع آخر من خلاله يسير العالم متقدما وبشكل تطوري حتى يبلغ نهايته الحتمية.
العمود الثالث في فلسفة القديس أغسطين يتعلق بالأخلاق، وهو مبحث بناه على مبدأ الحب، ولقد رأينا سابقا أن العالم مدين للإله الذي ليس خيرا أسمى فقط وإنما محبة خارقة، الإله لا يحب لأنه الحب عينه، ولأنه سبب كل الموجودات، ومن ثمة فقد توجب على كل مخلوقاته أن تحبه بوصفه أصلها وسببها، والحق أن هذه المحبة وبالإضافة إلى انها محبة غير مشروطة، فهي أيضا محبة حرة، ولهذا كان وجود الشر أيضا باعتباره دليلا على امتلاك الإنسان للإرادة الحرة التي إما تسير في طريق الحب أي الخير، أو تأخذ مسار الشر. يعرض القديس أغسطين تصورا جديدا للشر غير الذي كنا نعتقد به، إنه ينفي أولا وجود تضاد بين الخير والشر، لأن الأول أصل والثاني ناجم عن الأول، الأول من صنع إلهي خالص، بينما الثاني انفلات من الخير وترك له، خاصة وأن المقدمة الأخلاقية ترى في الإله خيرا أسمى، وهو بذلك ليس خالقا للشر.
عندما نحاول تصنيف فلسفة أغسطين، فإننا لا نخرجها عن مبادئ المدرسة الأفلاطونية، إلا أنها وكما رأينا سلفا، أضافت إلى الفلسفة الأفلاطونية نفحة مسيحية محضة، كأن أفلاطون كان مسيحيا قبل المسيحية، وكأن المسيحية أفلاطونية دون أن تعرف ذلك، ربما لهذا السبب يصعب القول أن القديس أغسطين فيلسوفا، لكنه وبالرغم من ذلك فقد أثر على فلاسفة كبار من قبيل القديس أنسلم والقديس فكتور والقديس بونافوتير ومالبرانش وموريس بلونديل.. كما أثر أيضا على حقب زمنية امتدت منذ العصر الوسيط إلى القرن العشرين.