نهاية الإسلام السياسي

صورة: ياسين التومي
محمد عبد الوهاب رفيقي

حلت قبل أسابيع الذكرى التسعون لتأسيس تنظيم الإخوان المسلمين، ولا يمكن أن تمر هذه الذكرى دون الوقوف عندها، بحكم ما كان للحركة من تأثير في واقع مجتمعاتنا المعاصر، وبحكم ما لعبته من أدوار مختلفة خلال هذه العقود، وبحكم ما تفرع عن الحركة الأم من جماعات وفرق ساهمت في تشكيل التاريخ المعاصر.

لا أريد الحديث هنا عما تعيشه الحركة اليوم من أزمة، ولا عن أحداث 30 يونيو وما تلاها من تطورات وتغيرات، أدت للإطاحة بمحمد مرسي، والزج بالآلاف من أبناء الجماعة وقياداتها في السجون.

ولكن أحب الحديث عن فكرة الجماعة التي أسسها حسن البنا عام 1928، وعرفت مسيرتها عددا من التطورات والتحولات، كما عرفت عددا من الانشقاقات والاختلافات، وخاضت خلال ذلك جولات من الصراع مع السلطة، ولم يقتصر نفوذها على دولة التأسيس، بل تحولت لتنظيم عالمي متعدد الفروع، دون إغفال ما للحركة من تأثير على كثير من الجماعات وإن لم تكن ضمن التنظيم وفروعه.

السؤال الذي يطرحه اليوم كثير من المتابعين للحركة بل من أبنائها أيضا: هل تحتاج الحركة لعملية مراجعة؟ هل الأزمة الراهنة تستدعي ترشيدا ونقدا ذاتيا يعيد النظر في المواقف والاختيارات؟ هل حان الوقت لتشكيل رؤى وتصورات جديدة تستجيب لما وقع لحركة من هزات كبيرة وتطورات سريعة؟

في رأيي الشخصي، لا تحتاج الحركة لكل ذلك، لا إلى مراجعات ولا إلى نقد ذاتي ولا لإعادة تشكيل مواقف جديدة، قد فعلت ذلك مرات ومرات، وقد عرف مسارها تحولات وتغيرات، لكنها ظلت ضمن الفكرة الأصل التي لم يقع التخلي عنها إلى اليوم.

حركة الإخوان المسلمين في ظل السياق الحالي لا تحتاج في نظري إلى مراجعة، بقدر ما تحتاج لتغيير جذري وشامل، بعد كل ما رأينا ووقفنا عليه كل هذه العقود السابقة من آثار الإسلام السياسي على واقع أوطاننا ومجتمعاتنا.

لا ينبغي في نظري مراجعة بعض المواقف والاختيارات بقدر ما ينبغي إعادة النظر في الأطروحة نفسها، فكرة الإسلام السياسي ومحاولات أسلمة المجتمع على مستوى السياسة والاقتصاد والاجتماع، وخلط ما هو ديني بما هو سياسي، ومشروع الخلافة  والدولة الإسلامية الذي قامت عليه ومن أجله حركة الإخوان، ومنطق الجماعة المؤمنة والأكثر إسلاما والتي تسعى إلى ضم الآخرين إلى إسلامها، ومفهوم الحاكمية وتطبيق الشريعة بمعنى استصحاب كل القوانين القديمة التي شرعت في سياقات خاصة، وما أنتج ذلك من حملات تزييف الوعي، وظاهرة الإعجاز العلمي، واختراع بدائل إسلامية لإنجازات البشرية في العلم والفن والاقتصاد.

الجماعة مطالبة اليوم بالتخلي عن شعارها التاريخي  " الإسلام هو الحل"، بعد أن أثبت التاريخ وأثبتت التجارب عدم صدق الشعار وفراغه من كل مضمون صالح لتدبير الحياة، فالإسلام دين يربط الفرد بالسماء، ويضع القيم والمثل والغايات، وليس نظاما تفصيليا لكيفية تسيير شؤون الدول وكيفية رعاية مصالح الخلق.

 الجماعة مطالبة بالتخلي عن كثير من  المفاهيم التي شكلت روح الجماعة، ولم تتخل عنها أبدا رغم ما وقع من تطور في بعض الأفكار، إلا أنها لم تجاوز السقف الذي يخرجها من دائرة الإسلام السياسي، وذلك أساس مشكلتها وأزمتها.

لا بد أن تعي الجماعة أن فكرة الإسلام السياسي تعيش حالة احتضار وأنها إلى زوال وانتهاء، خاصة مع ما أنتجته الفكرة من عنف من جماعات تتبنى نفس الفكرة ، بل خرجت من رحم الإخوان رغم أنها انشقت عنها،  من التيارات القطبية الخارجة من رحم الإخوان، والتي كانت مسؤولة عن توفير الغطاء العقدي لكل حركات العنف الإسلاموي، إلى القاعدة وداعش، وكل حركة وجماعة تحمل معها حلم تأسيس الدولة الإسلامية.

هل يدرك أبناء الجماعة أن زمن جماعات الإسلام السياسي قد انتهى مع ما تعرفه المنطقة من تحولات، ومع ما يقع من انقلاب على العقيدة الوهابية في عقر دارها، وهي التي طالما احتضنت الفكر الإخواني وتحالفت معه على مختلف المستويات، قبل  أن يحولهما اختلاف المصالح الذي جمعهما أول مرة لخصوم وأعداء.

حراك 2011 كشف عن كثير من الدوغمائية  والذهنية الاستعلائية التي تتعامل بها الجماعة، إذ كان من الصعب الوقوف على ذلك في ظل استجداء التنظيم لموقع داخل المجتمع، والقيام بدور المعارضة، ودغدغة عواطف المتدينين، لكن بلوغ سدة الحكم، والانتقال مما تسميه أدبيات هذه الجماعات من منطق "الاستضعاف" إلى منطق " التمكين"، هو ما أخرج كثيرا من المخبوء للعلن، وخرق كثيرا من الغطاء الذي كان يلف الجماعة وتصوراتها.

كل هذا في نظري ينبغي ان يدفع الجماعة لتغيير شامل وجذري، يحولها من جماعة دينية إلى هيئة مدنية،  لا أفضلية لها على باقي الهيئات، ولا تميز من حيث العلاقة مع الدين ومرجعيته، وتؤمن قناعة وحقيقة بمنطق الدولة الوطنية الحديثة، وليس بمنطق الدولة الإسلامية والخلافة الضائعة.