يوميّات مواطن عربي لا يضحك

تيل كيل عربي

د. كمال القصير - مفكّر مغربي

استمرار الضحك بين الناس أو تراجع منسوبه أهم من أي مقياس لمعرفة أحوال الأفراد في المنطقة. أهم من أرقام ومؤشرات الاقتصاد والسياسة. إن مؤشر السعادة المعتمد دوليا أصدق من لغة الأرقام. الضحك والنكتة والسعادة تمنح الشعوب معنى للاستمرار في مواجهة تقلبات الحياة القاسية. وعلينا أن ننتبه إلى خطورة احتمال تراجع حجم القادرين على الضحك في المنطقة العربية، مع مرور الزمن.

إن على المواطن العربي أن يدعو الله مخلصا أن يرزقه من الضحك ما يمكنه من مواجهة الواقع. وقد حاولت أن أحصي بعض الأسباب، التي تجعل المواطن العربي يضحك مخلصا في ضحكه لا متكلفا، لكني لم أجد الكثير. فحيثما التفتنا، صعقتنا المحبطات من السياسة والاقتصاد والصحة والتعليم والمستقبل.

لكن أغرب الأشياء في الواقع، هو ألا يضحك الإنسان حقيقة، إلا بسبب الوهم الذي تمنحه إياه لعبة في الرياضة. لقد أصبحت مقتنعا أن على المثقف أن يُضحك الناس، تعويضا عما يسببه السياسي لهم من الحزن والإحباط. كما أن على الواعظين أن يسعدوا الناس في زمننا هذا، لا أن يبالغوا في تخويفهم، فواجب الوقت مختلف.

إن معنى الأمر النبوي بالابتسامة للناس التي تعتبر صدقة، هو جعل الضحك والسعادة أمرا شائعا في الفضاء العام. لكن هذه الفريضة لم أرها منذ زمن طويل، فقد اختفت. إن الوعي العربي الحالي ينتج الكآبة، فالجيل الحالي لا يعيش أدنى المنجزات. فجيوشنا لا تعود منتصرة من الحروب، حتى نستقبلها بالورود والزغاريد ونزين لها المدن.

ولكثرة هموم وأحزان المواطن العربي، يغلب على ظني أنه لم يعد هناك من يضحك في صلاته فيبطلها، ويعيدها لاحقا. وأن يضحك الإنسان في الصلاة؛ حيث يلزم الخشوع، لابد أن يكون وراء ذلك حالة سعادة وراحة في حياته، تجعله يتذكر لحظاتها في صلاته، فلا يملك نفسه حتى ينطلق ضاحكا. نعم، لقد غابت القهقهة في الصلاة، ولكن لم يحضر الخشوع. لقد كان على الفقهاء أن يولوا أهمية أكبر للضحك، لا من باب كونه من مبطلات الصلاة، بل من جهة الاستعانة به على التكليف.

متى بدأ الضحك؟

تحيل بعض الروايات إلى أن الضحك ظهر ما بين عشرة إلى ستة عشر مليون سنة مضت. وقال البعض إن أقدم ذكر للضحك في الكتاب المقدس، في سفر التكوين، بعدما بشّر الرب النبي إبراهيم عليه السلام بالذرية. "فسقط إبراهيم على وجهه وضحك، وقال في قلبه: هل يولد لابن مائة سنة؟ وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة". أما من حملوا معهم عقيدة آلام المسيح، فلم يجدوا حديثا عن الضحك في كلام عيسى عليه السلام لينقلوه. لكن الكنيسة لم تطق صبرا، فسمحت لاحقا بالضحك في عيد الفصح، للتعبير عن الفرح بقيامة المسيح. وكان الكهنة يقولون النكات، ويتشاركون المزاح والغناء مع المؤمنين. أما في الإسلام، فالأمر أكثر اتساعا؛ حيث كانت سوق الضحك رائجة في الأدب والمجتمع.

وفي أحلك لحظات التاريخ في مصر زمن الفاطميين، كانت النكت والضحك مخرجا ومتنفسا أمام تغول السلطة وقهرها. وحفظت السجلات التاريخية ما كانت قريحة الناس تجود به من نكت. لكن ليست كل الشعوب متشابهة في قدرتها على مقابلة حالة القهر بحالة الضحك، فبعض الشعوب تستسلم لليأس والإحباط والانزواء، ولا تنتج نكتا حول أحوال الاستبداد. إنك إذا اطلعت على تاريخ الفرس مثلا، فقلما تجد الناس ينتجون النكت في مواجهة حالة تغول السلطة. وهل يستطيع أحد أن يؤلف نكتا أيام الشاه إسماعيل أو الشاه عباس الكبير، الذي سمل أعين أبنائه وقتل بعضهم؟

بالمقابل، كان الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله مصدر إلهام لقريحة المصريين، فقد أصدر عام 404هـ قرارا بمنع النساء من الخروج من بيوتهن نهارا أو ليلا إلا لضرورة، وبإذن من القاضي. ولضمان تنفيذ قراره، أمر بمنع صناعة أحذية النساء. وقد قلب الحاكم ليل المصريين إلى نهار، وفرض التجارة في الليل، وخرج مرة بعد شروق الشمس، وهو يعني غروبها في قانونه الجديد، ليرى مدى التزام الناس بالقانون، والنوم نهارا. كانت الأحياء خالية، والدكاكين مقفلة، لكن رجلا كان لا يزال يعمل في ضوء النهار، وقد أشعل مصباحا. سأله الحاكم عن سبب مخالفته القانون، فأجابه الرجل: أنا سهران شوية.

وفي أيام حسني مبارك، أراد المصريون أن يشرحوا حدود ثروته وتوسعه في المال. فقالوا ساخرين: لقد كان يمتلك دكانين بس، واحد في القاهرة والثاني بعيد أكثر من ألف كيلومتر في أسوان، "بس كان فاتح الدكانين على بعض". إن هذا يعني أنه كان يمتلك ما بين القاهرة وأسوان.

إن القدرة على الضحك ليست أمرا سهلا كما نعتقد. الضحك ملكة وخاصية يعرفها الإنسان فقط. أما باقي الكائنات، فبإمكانها أن تفرح، لكنها لا تضحك. وهي صفة لا يمكن اكتسابها من خلال التجربة. إننا في الغالب لا نسأل أنفسنا عن الأسباب التي تجعلنا نضحك، ولا كيف نبدو أثناء الضحك، وعن عدد المرات التي نضحك فيها في اليوم. وقد تمر أيام دون أن نمارس فعل الضحك. إنها حقا إحدى المشكلات، وفي كثير من الأحيان، أقوم بتعريض نفسي للأعمال التلفزيونية الساخرة لعلي أفوز بلحظات ضحك، لكني أفشل بسبب تفاهة المشهد الإعلامي. إن مفهوم التفاهة السائد، بشكل عام، لا يخلق حالة من السعادة، بل يعمل فقط على تبلد الحس وتسطيح العقل. لقد أصبحت محاولات الإعلام جعل الناس يضحكون تبوء بالفشل غالبا.

وبحثت عن مفهوم الضحك لدى الفقهاء، فلم أجد في الأمر تفصيلا أو بيانا. أما عندما بحثت في كتب العقائد، فقد وجدت خلافا كبيرا حول صفة ضحك الله تعالى نفيا أو إثباتا. نعم إن الله هو أضحك وأبكى، كما أنه ضحك من أفعال بعض من عباده بما يليق به سبحانه. وهذا يجعلني أعتقد أن الضحك أمر بالغ الأهمية، بالنظر إلى نسبة الله هذا الأمر لذاته.

في قريتنا لا يضحكون

نسي الجميع في قريتنا فريضة الضحك. وقد كنت أعتقد أن مدة غيابي الطويلة قد غيرت من أحوال الناس، حتى زرتها حديثا، فوجدت تكاليف الحياة قد عضت الناس وأنشبت أنيابها في لحومهم. فكيف يضحك من يرى تحطم أحلام جيل عربي كامل؟

لقد حاولت أن استغل بعض المناسبات، التي يفترض أن يفرح فيها رجال ونساء قريتنا، لأحكي بعض القصص التي قد تغير أمزجة الحاضرين. فتذكرت أيام المجاعة الكبرى في مصر، وكيف كان المصريون قد أصبحوا يأكلون لحوم البشر، وهو مشهد لا يختلف كثيرا عن مشاهد مسلسل "Walking Dead". ففي تلك الأيام الصعبة، يقول عبد اللطيف البغدادي في الإفادة والاعتبار: أن سنة 595 هجرية قد دخلت مفترسة أسباب الحياة. واشتد بالفقراء الجوع، حتى أكلوا الميتات والجِيَف والكلاب والبعر والأرواث. ثم تعدّوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم. فكثيرا ما يُعثر عليهم ومعهم صغار مشويون أو مطبوخون، فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل.

ورأيت صغيرا مشويا في قُفة، وقد أُحضر إلى دار الوالي ومعه رجل وامرأة، يزعُم الناس أنهما أبواه، فأمر بإحراقهما. إن هذا كان فقط مقدمة لما أردت أن يضحك منه الحاضرون، فشر البلية ما يضحك. فقد تفنن المصريون لاحقا في استخدام الكلاليب الحديدية، التي تشبه ما عند صيادي الحيتان الكبيرة، وذلك لاصطياد المارة.

فتخيل أن تمر بحارة، فيتم اصطيادك وشويك وأكلك. إنه منظر لم أتوقف عن الضحك يوم قرأته أول مرة. وأكثر منه أن الناس أكلوا بغلة الوزير، فشنق الوزير آكليها، ثم جاء المساء، فأكل الناس الجماعة المشنوقين. لكن يبدو أن قصصي لم تضحك الحاضرين. لكني لم أخبرهم ببقية القصة، فقد قال البغدادي، وهو طبيب ومؤرخ، أن الناس اعتادوا لحم البشر؛ بحيث اتّخذوه معيشة ومطيّة ومدَّخرا وتفنّنوا فيه. ووُجِد بكل مكان من ديار مصر، فسقط حينئذ التعجب ولم يعودوا يرونه بشعا.

في قريتنا، ذاع يوم خبر حدوث إحدى الكرامات، فقد مات أحد الناس مبتسما. يا للعجب! فقلت لعله ضحك لما شاهده مما يفرح في العالم الآخر، بما يعوضه عن حياته السابقة التي يبست فيها عضلات وجهه. وقد سمعت فجأة يوما ضحكا، فكانت مفاجأة لي، لولا أنني اكتشفت أن صاحبها رجل أحمق.

إن الكآبة ليست جوهر الإنسان، وليست هي ذاته، لأننا نتقلب بين الأحاسيس. أما الجنون، فهو ذاتي، فلا يعتري المجنون لحظات عقل. وكنت دائما أتساءل، هل يرى المجنون العربي أحلاما في المنام؛ بحيث يعيش لحظة نادرة تمنحه فرصة الربط المنطقي بين الأحداث والأشياء ولو للحظات؟ لا أحد بإمكانه معرفة ذلك. والمجنون العربي، للأسف، لا يستطيع أن يخبرنا بما يرى في منامه. لا تستغربوا، فقد سألت مجنونا ذات يوم عما يراه في النوم، وحاولت أن أشرح له ما أريد منه بكل الطرق، لكنه أخذ الدراهم، وضحك من جنوني وأسئلتي الغبية في نظره ربما، ثم انطلق هاربا.