جعيط (2): لا أرى علاقة بين الابتعاد عن الدين ودخول الحداثة

غسان الكشوري

يواصل المفكر والمؤرخ التونسي، هشام جعيط، في الجزء الثاني من حواره مع "تيل كيل"، الحديث عن علاقة الدين الإسلامي بما سبقه من الأديان، لا سيما طبيعة كتبها المقدسة وصلة النبي محمد بالوحي. كما يشرح تأثير تراث هذه الأديان على الحداثة، وكذلك ودور الاسلام السياسي اليوم في الفكر العربي، ارتباطا بأسباب النهضة والتخلف.

 

 تعتمد في كتاباتك على نشأة المدينة العربية الإسلامية، الكوفة، تاريخية مكة والمدينة.. لماذا تركز على البداية الأولى لتشكل المدن؟

أولا، لأن كل الأصول كانت هناك. ومن ناحية تاريخية، المسلمون والعرب لا يعرفون معنى التاريخ ولم يأخذوه بعين الاعتبار. ربما لأن كل العلوم لم تدخل في ثقافتنا، كالعلوم الإنسانية، أو لأننا لا نمتاز بعلماء سوسيولوجيين وأنثروبولوجيين وجغرافيين بارزين.

التاريخ في حد ذاته له قيمة، بحيث يخول لنا فهم الحاضر من خلال فهم الماضي. كما أن هذه الأصول هي جذور نشأتنا ولا بد من تفكيكها، على غرار ما قام به الغربيون عندما درسوا، عن كثب، الحضارة اليونانية والرومانية وحتى الإسلامية.

نحن نتبجح بأن لنا حضارة كبيرة في الماضي، لكن بصفة عامة هي غامضة ومقامة على الانجازات الأدبية والفكرية. وبالتالي هل نعرف أصول الحضارة وكيف كانت بداياتها!

ما الذي استنتجته، كمؤرخ ومفكر، بخصوص موقع الإسلام في المسار التاريخي للأديان ؟

عندما شرعت في دراسة الإسلام القديم كنت متعجبا؛ لأن الدين كان مسيطرا علينا أثناء دراستنا للفكر، وليس لفهم واقع الماضي. وبالتالي كانت دراساتي وكتبي محاولة لفهم نشأة الإسلام بصفة معرفية صرفة. وكمسلم غلبت على قراءاتي بادء الأمر نزعة القداسة، (سيدنا عمر وسيدنا كذا..).

لكن عندما توسعت في القراءة والمعرفة، لا سيما المراجع الإسلامية نفسها؛ كالطبري (تاريخ الطبري)، وكذلك كتاب طه حسين عن الفتنة الكبرى، لكونه يحمل نوعا من الفكر التاريخي، أصبحت دراساتي للتاريخ محاولة لنزع القداسة.

إضافة لذلك، تأثرنا بما كتبه المستشرقون بدراستهم الدين ونشأة الكلام. رغم أنه، من ناحية الترابط القوي بين التاريخ السياسي والاجتماعي مع ما هو ديني، لا أعتبر دراساتهم دائما دقيقة، باستثناء البعض منها.

المستشرق "تور اندري" مثلا، الذي استفدت منه، درس أصول الإسلام من المسيحية ، ويعرف القرآن والسريانية جيدا، وهو من اعتبر أن تأثيرات المسيحية في أولى الآيات القرآنية كانت تحمل تشابها، لا سيما في ما يخص الأمور الاسكاتولوجية (أي الآخرة وما بعد الموت).

(مقاطعا).. وجود تشابه بين القرآن والمسيحية إلى هذه الدرجة، ألا يضع شخصية النبي في المحك، أي في مسألة حقيقة تلقيه الوحي، بحسب دراستك في ثلاثية "السيرة النبوية" ؟

دراستي عن النبي محمد كانت في إطار التاريخ الواقعي، أي ماذا حصل؟ باعتباره إنسانا. وأنا كمؤرخ لا أنكر الوحي (La révélation) في الإسلام، على غرار باقي الديانات والمسيحية والهندوسية. فالفيدا (كتاب الهندوس) مثلا، يعتبر عند المؤرخين كوحي، وهو يجعل الهندوسية دينا مبنيا على الوحي.

من جهة أخرى، كتبت أن النبي كان مبلغا للوحي فقط، وذلك بناء على تطوره الداخلي كإنسان. هذا ليس تناقضا بين أن يكون الإسلام يحتوي على بعض الأمور المسيحية، وبين أن يكون موحى إليه. فبحسب القرآن، كمرجع تاريخي، الرسول مبلغ للوحي فقط. أما حسب التاريخ فمحمد (ص) عاش في فترة وبيئة، ويهم المؤرخ أن يفهم ظروف وسياق نشأته. دراستي للأمرين ليس بهما أي تناقض.

أنا أومن بالقرآن ككتاب موحي به، مثله مثل كتاب الفيدا عند الهندوس، والانجيل عند المسيحيين وغيره من الكتب المنزلة، بغض النظر من هو الإله، فكلها من نفس النمط.

في الجزء الأول من الثلاثية (أي كتاب "في السيرة النبوية")، حاولت فهم الوحي من خلال القرآن نفسه، وفي الجزأين الآخرين، درست شخصية النبي من خلال بيئته وواقعه.

أنا أومن بالقرآن ككتاب موحي به، مثله مثل كتاب الفيدا عند الهندوس، والانجيل عند المسيحيين وغيره من الكتب المنزلة، بغض النظر من هو الإله، فكلها من نفس النمط. لكن مقابل ذلك، لابد من التأكيد أنه من ناحية الواقع، المؤرخ يتدخل ويحاول أن يفسر.

من حسن حظنا لدراسة شخصية الرسول محمد (ص) أن لنا شواهد تاريخية مهمة أعطت تفاسير متعددة وأثبتت وقائع حقيقية. وهذا لم يكن موجودا في اليهودية القديمة. والمسيحية ظلت غامضة، بل وحتى الفيدا تحتوي على مئات آلاف الصفحات، أكثر مما عند الاسلام في ما يتعلق بالكلام الإلهي.

لكن المسلمين فيما بعد، نموا رصيدهم الديني، بتدوين الحديث والسنة وبعلم الكلام والفقه..، فتكوّن هيكل كبير، ولم يعد القرآن وحده مرجعهم، وهو أمر طبيعي.

المؤرخ وسط مكتبته، وخلفه جوائزه العلمية

ألا يشكل هذا الكم الهائل من الكتب ومن التراث مأزقا للدين أو عائقا لدخول عصر الحداثة ؟

هذا لا يشكل مشكلا، فكل الأديان تطورت وأخذت في النمو. ففي البوذية كم حدث من اجتماع ديني لما يسمى بـ (Conciles)، لتدقيق التدين وتحديد الاختلافات داخلها، والتي أدت إلى انقسامات؟ ماذا حصل كتطور في الهندوسية التي تحولت من أصلها "ريغ فيدا" القديمة إلى أن صارت هندوسية؟ الدين ينمو ويكبر وتقع داخله انشقاقات وتداخلات وهذه قاعدة عامة.

أوروبا ابتعدت عن الدين، بينما الإسلام والهندوسية صعب على أبنائهما الدخول إلى الحداثة والابتعاد عن أصول الدين وجذورهم. في أوروبا حصل صراع بين الكنيسة، والإلحاد والتنوير واللائكية (العلمانية).

الغلطة الكبرى التي نعتقد، وربما بسبب ما زرعه المستشرقون والاستعماريون، هي أن الخروج من الإسلام يدخل إلى الحداثة والتطور مباشرة.

صادف ذلك أن أوروبا كونت هذه الحداثة لأنها آخر حضارة أتت في الوجود التاريخي. وبما أن العالم صار متقاربا جغرافيا، بخلاف الماضي، فأحدث لنا (أي العرب والمسلمين) ذلك مشكلا، بحيث وجدنا أنفسنا متأخرين بالدخول إلى هذه الحداثة، لأنهم دخلوا قبلنا في القرن 17 بالعلم، وفي القرن 18 بالثورة الصناعية، ونحن كنا في تلك الفترة في سبات عميق.. فأتينا إليها مؤخرا.

لكن لابد من التنويه أن الغلطة الكبرى التي نعتقد، وربما بسبب ما زرعه المستشرقون والاستعماريون، هي أن الخروج من الإسلام يدخل إلى الحداثة والتطور مباشرة. الحداثة في واقعها قبل كل حساب، هي مقامة على النظام الاقتصادي والاجتماعي والأنظمة السياسية الجديدة، وكذلك على أنماط الحياة اليومية بما فيها الإبداعات الفنية الحديثة والاختراعات.. وهي الاقتصاد والدولة الحديثة بمرتكزاتها البيروقراطية والديمقراطية. شخصيا لا أرى علاقة بين الابتعاد عن الدين تماما وبين الدخول إلى الحداثة.

ومن ناحية تطبيقية، لسنا الآن في فترة قطيعة مع الدين، لأن مجتمعاتنا هشة وضعيفة. لكن أنا من الناس الذين يصرون أنه ليس على الدولة أن تكون دينية بحثة، وليس على المجتمع الاقتصادي والمدني أن يتبع الأنماط الدينية، كما أدافع عن حرية الضمير والمعتقد والتدين.

هل للإسلام السياسي دور في هذه القطيعة وفي النهوض، وكيف تقيم الأوضاع حاليا ؟

في تونس نحن نجحنا في أن تكون الدولة مدنية، رغم أن الاسلام السياسي عارض هذا، لكن غالبا الكل اختار التوجه المدني.

من جهة أخرى، لا يزال الآخر (الغرب) هو الأقوى؛ يهيمن في ظل غياب قوة عربية في الساحة الدولية. نحن نتصارع في ما بيننا ونحن ضعفاء.

لهذا، ووبالرغم من وجود مفكرين عرب على قلتهم، فهناك من يحاول أن يرد بغباوة بقتل الآخر، وهذا راجع لكون العالم الإسلامي اليوم، بما فيه العقل الإسلامي، في حالة ضعف. والسبب راجع لكون الفكر العربي ليس عميقا، وبعضه متأثر بما يجري في السياق الخارجي، بتأثير الميديا وتقليد الذهنيات، وفي ظل غياب سيادة للعلم.

لذا فالتمسك بالفكر في الساحة العربية، من أجل النهوض؛ تعد إمكانية غير ناجعة، لأن فكر المجموعات هو الاخر فكر ضعيف. فعندنا تقريبا 10 أو 20 مفكرا، وهذا عدد قليل.

  الجزء الأول: الصراعات داخل الإسلام