تحقيق.."ضريبة فلسطين".. أحدثها الحسن الثاني ولفها الكثير من الغموض

بلال مسجد

منذ 1970، يتضمن بيع كل علبة سجائر وكل تذكرة سينما أو مسرح بالمغرب رسما قيمته بضع سنتيمات مخصص لمساعدة الشعب الفلسطيني،  ولكن الكثير من الغموض يلف "ضريبة فلسطين" هذه. "تيل كيل" حاولت تبديد بعض العتمات المحيطة بها.

بعد أن طواه النسيان خلال العقود الأخيرة، عاد الصندوق المغربي المخصص لدعم كفاح الشعب الفلسطيني إلى الواجهة بفضل تحقيق الجمارك حول خرق مقتضيات حقوق الملكية الصناعية.

ويتم تمويل هذا الصندوق من ضريبة مفروضة على بيع السجائر وعلى تذاكر السينما والمسرح. وكشفت الجمارك أن كل شركات توزيع السجائر لا تؤدي هذه الضريبة باستثناء "الشركة المغربية للتبغ".

ولكن هذا التحقيق أثار بالخصوص الكثير من الأسئلة من قبيل: هل يتم فعلا دفع كل عائدات الصندوق إلى فلسطين؟ لماذا لم تكن خزينة الدولة حريصة على التأكد من أداء شركات توزيع السجائر لهذا الرسم؟ من يقرر في مآل هذه الملايين من الدراهم؟

الضريبة الموعودة

في يناير 1970، وسنوات قبل إنشاء لجنة القدس، أعلن الملك الراحل الحسن الثاني في أحد خطاباته عن مشروع يروم فرض ضريبة على بيع التبغ وعلى تذاكر العروض الفنية، والهدف: دعم كفاح الشعب الفلسطيني. بعد عشرة أشهر صدر الظهير المؤسس لـ"صندوق مساندة المغرب للشعب الفلسطيني". هكذا تم فرض ضريبة على الأصناف الفاخرة من التبغ والسجائر والسيكار تصل إلى 10 سنتيمات على كل علبة وتم فرض 5 سنتيمات على كل علبة من التبغ "العادي"، بعبارة أخرى: 10 سنتيمات على التبغ الأصفر ومشتقاته و5 سنتيمات على التبغ الأسود ومشتقاته (الذي لا يمثل سوى 5% من السوق). أما فيما يخص العروض المسرحية والسينمائية، فإن الضريبة تتراوح ما بين 10 و50 سنتيما. ولكن سنضعها جانبا ولن نركز عليها مادامت عائدات العروض متواضعة جدا.

كم كانت ستذر ضريبة فلسطين اليوم؟ مبدئيا يؤدي موزعو التبغ هذا الرسم لخزينة المملكة مرفوقا بتصريح يوضح بدقة عدد العلب التي تم بيعها.

قبل تحرير قطاع التبغ في 2011، كانت "الشركة المغربية للتبغ" – وكالة التبغ سابقا- هي المكلفة بدفع ضريبة فلسطين، ولكن انطلاقا من 2011، لم يعد أي فاعل في سوق التبغ يكشف عن حجم مبيعاته. "لأسباب تنافسية، لا يمكننا أن نتقاسم معكم حجم مبيعاتنا"، يقول مصدر من شركة "فيليب موريس".

بيد أن كل الفاعلين يتفقون على أنه يتم بيع حوالي 14 مليار سيجارة كل سنة بالمغرب. "وقد ظل هذا الرقم ثابتا طيلة العشرين سنة الأخيرة" يقول خبير بالقطاع. تمثل هذه الـ14 مليار سيجارة 700 مليون علبة خاضعة لرسم قيمته 10 سنتيمات، أي أن ضريبة فلسطين تذر 70 مليون درهم كل عام.
وحسب المعلومات التي حصلت عليها "تيل كيل"، دفعت "الشركة المغربية للتبغ" حوالي 38 مليون درهم كضريبة لفلسطين في 2018. بينما أدت الشركة التي تمثل "فيليب موريس" بالمغرب ما بذمتها عن السنوات الثلاث الأخيرة مؤخرا.

ويقول مصدر من الجمارك "لما اكتشفنا، في إطار مباحثات حول مواضيع أخرى، أن هذا الفاعل لم يؤد ما بذمته، بسطنا له الأمر، فسلمنا الشيك الذي قمنا بدورنا بتسليمه إلى الخزينة العامة".

كهذا أدت الشركة الممثلة لـ"فيليب موريس" 50 مليون درهم، بينما ينتظر أن تؤدي "جابان توباكو إنترناشيونال"، عبر ممثلها بالمغرب، 60 مليون درهم تهم ضريبة فلسطين عن السنوات الأربع الأخيرة.

كل هذه المبالغ ستذهب إذن إلى "صندوق دعم المغرب للشعب الفلسطيني"، الذي يبتلع من الناحية النظرية ضريبة فلسطين منذ 50 عاما. ولكن لا أثر لأي بيانات عمومية حول المبالغ الحقيقية التي حصلت عليها الدولة منذ إحداث هذه الضريبة. والحال أن العائدات تصل إلى 1.4 مليار درهم خلال العشرين سنة الأخيرة بناء على بيع ما معدله 700 مليون عبلة سجائر في العام !

كيف يتم إذن توظيف هذه العائدات؟

المشكلة هنا أن هذا الصندوق لا يظهر له أثر في أي تقرير عمومي لوزارة المالية.

"فيما يخصني، سبق لي أن رأيت أثره على ما أعتقد، ولكنكم لن تعثروا عليه في موقع الوزارة، فهو صندوق صغير جدا" يقول نور الدين بنسودة، الخازن العام للمملكة.

طيب، لماذا لا تظهر هذه الضريبة كذلك في التقارير المنجزة حول المالية المحلية؟

"في 12 من كل شهر، ننشر التقرير الخاص بالمالية العمومية، وبعده بقليل يأتي دور التقارير حول المالية المحلية. في نشراتنا، لا نركز سوى على الضرائب والرسوم المهمة"، يرد خازن المملكة.

وماذا عن التقارير المتعلقة بالحسابات الخاصة للخزينة؟ "الحسابات الخاصة للخزينة، لا تكشف شيئا ذا بال، فهي لا تشير سوى إلى المداخيل والنفقات" يقول صلاح الحمزاوي، الخازن العام السابق للمملكة(...)
من جهتها تقول فوزية زعبول، مديرة الخزينة بوزارة الاقتصاد والمالية "صراحة، لا أعلم بوجود هذا الصندوق".

كما سألنا وزراء مالية سابقين الذين كانوا آمرين بالصرف في هذا الصندوق وفقا لنص ظهير 1970، بدون جدوى. بل إن وزيرا سابقا للمالية حذرنا بالقول "ليس لدي أي فكرة، إنه سر من أسرار الدولة، والواقع ليس هناك ما يستحق إثارة الجدل. عموما، هذه المبالغ تذهب كمساعدة لفلسطين".

وحسب المصدر ذاته، فالأمانة العامة للحكومة لها علاقة بالصندوق. ولكن إدريس الضحاك، الأمين العام السابق للحكومة، يرد بلباقة أن لا فكرة لديه حول الموضوع "أعلم بوجود الصندوق، ولكن لم تسنح لي الفرصة للاطلاع على الملف. عموما، نطلع على ملف لما يكون محط نقاش، والحال أننا لم نناقش أبدا موضوع هذا الصندوق".

من ناحيته، صرح لنا رجل دولة ووزير أسبق للمالية أنه لا يعلم شيئا حول طريقة اشتغال هذا الصندوق، ونصحنا بدوره أن "نترك الموضوع جانبا".
من جهته، يقول فتح الله ولعلو، وزير الاقتصاد والمالية الأسبق " على غرار كل الصناديق، فهو يوجد بوزارة المالية، ولكن لا يمكنني أن أفيدكم أكثر. فالموضوع قديم جدا.. ويبدو لي أن الدولة تلجأ، بعد بيت مال القدس، إلى هذا الصندوق كلما قررت تخصيص منحة للسلطة الفلسطينية".

بما ان الآمرين بالصرف لهذا الصندوق لم يكن بمقدورهم إفادتنا حول عائداته ولا طريقة اشتغاله، قررنا الاتصال بالمسؤولين الذين شغلوا منصب الخازن العام للمملكة منذ الثمانينيات.

في هذا الإطار، يقول صلاح الحمزاوي، الذي تولى هذا المنصب ما بين 1986 و1998 "لِمَ يصلح هذا الصندوق؟ هذا سؤال مهم. لا أتذكر. ولكن ليس من الطبيعي البتة أن لا يوجد أي أثر لهذا الصندوق. هل يتوصل الفلسطينيون بتلك المبالغ فعلا؟". أما سعيد إبراهيمي، الخازن العام للمملكة ما بين 2003 و2008، فلم يرغب في الإجابة عن أي من أسئلتنا.

صندوق سيادي

على غير العادة، ستأتينا الأجوبة من فوزي لقجع، مدير الميزانية المعروف بتحفظه الكبير."نعم، يمكن أن أحدثكم عن 'صندوق دعم المغرب للشعب الفلسطيني'، مروا علي بمكتبي" قال لنا.

عند لقائه، كشف لنا أن مجموع أصول الصندوق في نهاية 2018 هو 80 مليون درهم. المفاجأة هي أن الوثيقة التي اطلعنا عليها تبين أن 14 مليون درهم فقط هي التي تذهب إلى الفلسطينيين سنويا: 6.2 ملايين درهم تغطي تكاليف سفارة فلسطين بالرباط و8 ملايين كمساهمة في "بيت مال القدس"، هذه الوكالة التي يوجد مقرها بالرباط والتي رأت النور في 1998 من طرف منظمة التعاون الإسلامي لمساعدة الشعب الفلسطيني. وقد استطاعت جمع حوالي 50 مليون دولار في ظرف عشرين سنة.

ولكن أين تذهب بقية العائدات المتأتية من ضريبة فلسطين.

حسب الوثيقة، تذهب خصيصا إلى بلدان... إفريقية ! هكذا، تم، في 2018، تمويل مساعدتين إنسانتين موجهتين إلى كل من رواندا والأردن، بقيمة 17 مليون درهم، من "صندوق دعم المغرب للشعب الفلسطيني".

وفي 2019، خصص المغرب منحة للكونغو برازافيل قيمتها 24 مليون درهم من هذا الصندوق، لتمويل بناء مشروع بحري، كما قدم مساعدة إنسانية إلى غينيا بساو.

لماذا إذن لم يكن بمقدور أي مسؤول حالي أو سابق بوزارة المالية الحديث عن الموضوع؟ يرد مدير الميزانية أن هذا الصندوق من الصناديق القليلة – بل لعله الوحيد - المحدثة بظهير.

سؤال آخر: لماذا تفيد ضريبة فلسطين البلدان الإفريقية على الخصوص؟

هنا يخرج فوزي لقجع ظهير 1970، ويكشف أنه تم تعديله في 1974 ليتضمن في فصله الأول "صندوق دعم المغرب للشعب الفلسطيني وحركات التحرر الوطني". ولكن الوثيقة لا تشير إلى الجريدة الرسمية ولا وجود لها بين النصوص التشريعية التي مدتنا بها إدارة نور الدين بنسودة.

ولكن هناك ظهير تنفيذ قانون مالية 1985 مثلا، لم يشر إلى أي تغيير في طبيعة هذا الصندوق واحتفظ بالاسم الأصلي (أي صندوق دعم المغرب للشعب الفلسطيني). وهذا يعني أن هذه الصندوق لم يتغير اسمه منذ 34 سنة بينما تغيرت وظيفته، كما بدا ظاهرا أنه لا يحظى باهتمام السلطات العمومية، بما أنها لم تنتبه إليه سوى بعد تفتيش مالي كشف عدم التزام الفاعلين المعنيين بأداء ما بذمتهم لهذا الصندوق. أما المواطن المغربي، الذي يؤدي هذه الضريبة، فيجهل كل شيء عن مآل هذا المال...