حين انتصرت مريم لنا جميعا

محمد عبد الوهاب رفيقي

الفايسبوك يحتفي هذا اليوم - وحق له ذلك- بالطفلة الجميلة مريم بعد نيلها لجائزة تحدي القراءة العربية، هذا الاحتفاء والفرح البارز بهذه الصغيرة يدل على أن وجود أمثالها اليوم أصبح نادرا، وعلى أنها بمقاييس اليوم تعد طفرة و تميزا واضحا...
لكنني أظن بكل صدق أن كثيرا من أطفال الثمانينات وما قبلها قد قرؤوا مثلها وربما أكثر منها، دون أن يعتبر ذلك إنجازا ولا استثناء، شخصيا في مثل سنها اعتقد اني قد أكون جاوزت قراءة المائتي كتاب التي قرأتها، فضلا عن التهامي لكل مجلات الكبار كمجلة العربي التي كنت ألتهمها وأنا صغير السن، على حداثة سني، علما أن جهابذة الكتاب كانوا يضعون بها مقالاتهم.
لا زلت أذكر مثلا أني بسن الحادية عشرة قدمت عرضا مفصلا عن الصراع الأدبي الذي كان بين العقاد والرافعي من جهة ، وبين العقاد وطه حسين، وبين العقاد و مدرسة شوقي وحافظ إبراهيم، ولم أقدم هذا العرض الذي حاز إعجاب الأستاذ المتمكن في اللغة إلا بعد التهامي لغالب ما كتب كل هؤلاء، فضلا عن كتابات كثير من الأدباء والشعراء والمؤلفين.
كان جيلنا يتحدث بكل فصاحة وطلاقة، بلغة أنيقة في مثل فصاحة هذه الجميلة التي أبهرت من تابعها بطلاقة لسانها، فيما نجد خريجي الجامعات اليوم يعجزون عن تكوين جملة مفيدة.

ما سر كل هذا الاحتفاء إذن؟مالذي يجعل مريم فلتة زمانها واستثناء عصرها؟ بكل بساطة: لأن مثل هذا المعدل في القراءة أصبح من قبيل الخيال، لأن معدل القراءة ببلداننا صار مضحكة بين الشعوب والأمم، لأن ثقافة القراءة أصبحت في حكم المعدوم أو النادر، بعد أن كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمدرسة والتعلم.

لا شيء يشجع اليوم على القراءة، لا سياق الثورة المعلوماتية والقنوات الفضائية التي حصدت الأخضر واليابس، ولم نحسن التعامل معها، حتى تحولت إلى مصدر للثقافة والمعرفة، ولا المجتمع الذي لا يحفزك للقراءة ولا يحثك عليها.

كيف تطلب من أب أو أم أو أمي أن يربي أبنائه على قراءة الكتب، وهو بنفسه لا يفارق هاتفه أو لوحته، وليس له من مصدر غيرها؟ كيف تريد من مجتمع يردد أن فلانا أمضى عمره في القراءة ولم يحقق شيئا يذكر أن يشجع أبنائه على المطالعة والقراءة؟ كيف تريد من مجتمع وزراؤه يزهدون من قيمة العلوم الإنسانية، ويتحدثون عن عدم جدواها ونفعها، أن يحفز أطفاله على قراءة كتب الأدب وعلى تذوق الشعر والتمرن على الفصاحة في البيان؟.

للأسف تم الإجهاز على الثقافة وإصابتها بالموت البطيء، ليست هذه الثورة المعلوماتية وانتشار وسائل الاتصال والميديا الحديثة بعذر ولا مبرر لمثل هذا الإجهاز، لأن الدول التي أنتجت هذه الوسائل واخترعتها، لا زالت تعرف معدلات جد مرتفعة في القراءة والمطالعة، لا زلت إلى اليوم في عصر اليوتوب والانستغرام والفايسبوك، تلج الحديقة العامة في هذه الدول، فتجد مرتاديها بمختلف أعمارهم، شيبا وشبابا، يتنسمون الهواء العليل وبين أيديهم نسخة ورقية، وفي أسوأ الأحوال يطالعون مؤلفهم على جهاز كندل، تصعد المترو فأينما التفت يمينا أو شمالا إلا ومنهمك في قراءة كتابه وتدوين ملاحظاته.

مشكلتنا أيضا ليس لماذا لا نقرأ، بل ماذا نقرأ؟، حركة التأليف ببلادنا لا تساير كل هذه التحولات في عالم الفكر والثقافة، هناك في الغرب يفتح الطفل عينه على ما يغريه على اليوتوب، ثم يدخل المكتبة فيجد سلسلته المفضلة قد تحولت إلى مجموعة قصصية.

يتابع الواحد فيهم برنامجا تثقيفيا على ديسكوفري فيجده من الغد قد تحول إلى تأليف كتابي ممتع، أو يشاهد فيلما فيحيله إلى الرواية التي اقتبس منها الفيلم، وهكذا حركة التأليف تستجيب يوميا لتطلع القاريء وعطشه المعرفي، لكن ما يؤلف في عالمنا في غالبه لا يحترم القاريء ولا ذوقه ولا تطلعاته.

للأسف نعيش زمن الكسل والرداءة، مع استثناءات قليلة جدا، تجعل من حقنا أن نحتفي بمثل هذه الجميلة، وأن نعتبر إنجازها انتصارا لنا جميعا.