قال فوزي لقجع، الوزير المنتدب المكلف بالميزانية "إن هدف الاشتغال على حقوق التنمية يتمثل ببساطة في الارتقاء بالمعيش اليومي للمواطنين، من حال إلى حال أفضل، تتحقق فيه كرامة الإنسان أولًا، ويتعزز فيه وضع بلدنا بما يتماشى مع مسار التطور العالمي ومراكز تقدمه، على اعتبار أن تحقيق مكانة آمنة ومحترمة أمر ضروري".
وأوضح لقجع خلال مشاركته في لقاء تواصلي نظمه المجلس العلمي الأعلى اليوم الأحد بالرباط، أن التنمية البشرية يجب أن تكون إحدى الأولويات، إن لم تكن الأولوية المطلقة، ما يستوجب النظر إليها كمشروع وطني تتضافر فيه جهود جميع مكونات الدولة والمجتمع، كلٌّ من موقعه ووفق تخصصه. وأضاف أن المجتمع، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، يتأثر بنوازع روحية متباينة، ما يجعل التعامل مع تحدياته اليومية يتطلب حضورًا قويًا.
وأفاد المتحدث ذاته، أن التنمية البشرية وموقعها ضمن التنمية بشكل عام يظلان موضوعًا إشكاليًا من حيث المبنى والمعنى، باعتبارها مفهومًا واسعًا وشاملًا لا يختزل في أبعاد محددة أو مواصفات واضحة. فما قد يُعتبر تنمية في سياق معين، قد يُنظر إليه بعكس ذلك في سياق آخر. وبنفس درجة الاختلاف، التي قد تصل إلى حد التناقض، تتباين زوايا النظر بين الدول والبلدان بشأن هذا الموضوع، ليس لمجرد الجدل، بل لضرورة مقاربة التنمية البشرية كنقطة انطلاق نحو فهم أعمق للذات الفردية والجماعية.
وأضاف الوزير المنتدب، أن التنمية هي مسألة نماذج، حيث يمتلك كل نموذج مرجعية ومنطلقات ونتائج وانعكاسات خاصة به. فالمنظومة الاقتصادية والاجتماعية تشكل إطارًا يوجه مسار التنمية بشكل عام، بما في ذلك التنمية البشرية. ومع ذلك، من الخطأ الاعتقاد بأن هذه المنظومة وحدها هي المحدد الرئيسي لطبيعة التنمية ومستواها، إذ يوجد عامل حاسم آخر يتمثل في ثقافة المجتمع، أو بالأحرى ثقافاته المتعددة، التي تتجلى في سلوكيات فردية أو جماعية، سواء كانت شائعة أو محدودة الانتشار، والتي تمتلك تأثيرًا قويًا على مسار التنمية، سواء بشكل إيجابي أو سلبي، وفقًا للظروف والسياقات المختلفة.
وأشار إلى أن هذا الجانب يُعد بالغ الأهمية، إذ يمكن أن يشكل، في بعض الحالات، قوة دافعة تعزز المجهود التنموي للدولة، بينما قد يتحول، في حالات أخرى، إلى عامل كبح يعرقل هذا المجهود. وأوضح أن مصطلح "الوازع" في اللغة العربية يحمل معنيين متقابلين، فهو يدل على الدفع، من جهة، وعلى الكبح، من جهة أخرى.
وتابع فوزي القجع، قائلًا إننا "أمام سلوك قد يكون ظرفيًا مرتبطًا باللحظة، وبالتالي عابرًا، أو قد يكون سلوكًا ناتجًا عن ردود أفعال، أو حتى سلوكًا متجذرًا يرتبط بمنظومة قيمية راسخة. وهذا يعني أننا إزاء واقع معقد يستوجب أدوات تحليلية تساعد في فك شفرات ما يجري، وتمكننا من حسن اختيار الأساليب وأشكال التدخل المناسبة بمختلف تجلياتها".
ولفت الإنتباه إلى أن "التنمية البشرية، في مفهومها الشامل، تشمل مختلف البرامج والمخططات التي تسهر الدولة على تنفيذها، انطلاقًا من رؤية اجتماعية تجعل المواطن محورًا لكل السياسات العمومية. وقد أولى الملك محمد السادس اهتمامًا خاصًا بهذا التوجه، حيث أطلق ورعى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي أسهمت في فتح مئات الأوراش على المستوى الوطني، ما مهد الطريق لتعزيز الجهود التنموية في مختلف المجالات الاجتماعية".
واستطرد لقجع قائلا "وقد تواصل هذا المسار من خلال إطلاق عدة مبادرات ركزت على محاربة الفقر، والنهوض بالتربية والتعليم، وتحسين الخدمات الصحية، وتعزيز الإدماج الاجتماعي. ومع مرور الوقت، تطورت هذه البرامج بشكل ملحوظ، مما ساهم في نضج التجربة وتهيئة الظروف لإحداث نقلة نوعية كبرى، تجسدت في مشروع الرعاية الاجتماعية، الذي يمثل مرحلة متقدمة في مسار التنمية البشرية بالمغرب".
وقال القجع، إن الحصيلة التي تحققت على مدى هذا المسار، وعلى امتداد ربع قرن، مشرفة إلى حد كبير. ومع ذلك، يظل الطموح لمشروع التغطية الاجتماعية كبيرًا وواعدًا، خاصة أننا نبني وفق إمكانيات واقعية، ما يعني أننا نخضع لمعادلة تراعي التوازن بين الطموح والإمكانيات. وبالتالي، فإن أمامنا تحديات كبرى تتطلب إمكانيات كبيرة لضمان تحقيق الأهداف المنشودة وتعزيز مكتسبات التنمية الاجتماعية.
وأضاف أن ما ينطبق على هذا المثال يمكن تطبيقه على باقي المجالات الاجتماعية. غير أن التنمية البشرية، كما تم استعراض بعض أوجهها، لا تؤثر بالضرورة في سلوك المواطن بشكل مباشر. فالسياسات العمومية في هذا المجال لا تهدف إلى تغيير كافة السلوكيات، بل نجحت في زرع قيم التضامن التي قد لا تمنع ظهور سلوكيات غير مناسبة، وإن كانت بشكل هامشي وعلى أقصى الحدود.
وتابع قائلًا: "وإذا ما خرجنا من الدائرة الاجتماعية لاستجلاء بعض مكامن الدائرة الاقتصادية الكبرى، فإننا نكون أمام واقع أكثر وضوحًا، ليس فقط في انشغالات الدولة، بل أيضًا في المجتمع ككل. الأمثلة كثيرة، بعضها أشد وطأة من البعض الآخر. وعليه، فإن الحديث عن الغش بمختلف أنواعه، والجشع، والفساد، وغيرها من مظاهر السلوك السلبي، يصبح أمرًا بديهيًا، خاصة عندما يرتقي إلى درجة الإجرام في العديد من الحالات".
ولفت إلى أن المعاملات اليومية تشهد الكثير من هذه الممارسات، سواء في الخدمات أو داخل المكاتب وغيرها. ومن بين أخطر هذه السلوكيات تلك التي تنعكس على المجتمع والدولة ككل، مثل الغش الذي قد يرتكبه مسؤول في جماعة أو إدارة عمومية، أو الغش الذي قد يرتكبه مواطن.
وأضاف أن نفس الأمر ينطبق على المواطن الذي يصر على الاختباء تحت ظلال القطاع غير المهيكل أو الاقتصاد الموازي.فهذا النوع من السلوك لا يتوقف عند البعدين الأخلاقي والقيمي فقط، بل إنه يحمل تكلفة مالية وتنموية كبيرة، وهي تكلفة قد تنعكس على المجتمع بأسره. هذه التكلفة قد تعرقل مسيرة التنمية عبر تعطيل مشاريع وسياسات عمومية مبرمجة، أو تمنع من اعتماد سياسات جديدة أكثر مردودية على المجتمع.
وأوضح أن ما قد يُعتبر سلوكًا فرديًا معزولًا، في الواقع، هو شكل من أشكال عرقلة مسيرة المجتمع نحو التنمية والتقدم والازدهار. وقد عمل المشرع على إيجاد إطار قانوني للتعامل مع مثل هذه الممارسات وردعها، كما يتم تطوير البناء المؤسسي بشكل مستمر لمعالجة الثغرات وتوفير آليات المراقبة والتقويم والتوجيه.
وقال القجع، إن تدخل الدولة لا يعني بالضرورة الإكراه أو التعذيب، حتى وإن كان صارمًا في تنفيذ ذلك عندما تقتضي خطورة الأفعال المجرمة. بل ينطلق دائمًا من تكثيف المراقبة والمواكبة والتدقيق.
ولفت إلى أن مختلف التجارب ذات العلاقة بتفاعل المواطن مع ما يمكن أن يدخل في مجال الشأن العام تشير إلى وجود نقاط ارتكاز هامة، أبرزها ثنائية الحقوق والواجبات، وهي ثنائية تختزل لنا في الغالب قيمة العدل. ورغم ما تتسم به قيمة العدل من تشعبات وتعقيدات على مستوى المضمون، حيث شكلت دائمًا مادة خصبة للنقاش الفلسفي والديني على السواء، إلا أنها تظل واحدة من المجالات التي تستدعي جهودًا مضاعفة لتجسيدها على المستوى الاجتماعي، من خلال تعميق مفهوم العدالة الاجتماعية. وهذا ما بدأت تقوم به الدولة من خلال البرامج الاجتماعية، تحت التوجيهات الملكية.
وسجل أن الأهمية القصوى للتدخل العلمي تظهر في ضرورة تجسيد وازع القرآن في إطار التدبير، بهدف تأطير الفهم، من جهة، وتوسيع مجال مضامين قيمة العدل من جهة أخرى. فحتى لا يبقى النظر للعدل مقتصرًا على المظلومية كما قد يرى المواطن البسيط، يجب تقديمه كمنظومة واسعة قد يشكل فيها ذلك المواطن البسيط عنصرًا من عناصر تقويم العدل الذي يدخل في خانة الغش والجشع، كحالة من حالات السطو على حقوق الآخرين. وعلى هذا المنوال، يمكن اعتبار العديد من الأمور في حاجة لتدخل العلماء لتأصيل السلوك المضاد، استنادًا إلى مضامين القرآن الكريم.
واختتم حديثه قائلًا: "هذا، علمًا أن البعد التربوي لوازع القرآن في التنمية وتقويم السلوك لا يوازي وازع السلطان من حيث الفعالية، ذلك لأنه مهما كانت قوة المؤسسات والقوانين، يبقى دائمًا في حاجة إلى مرتكزات قيمية وروحية. وهذا ما جعل البلدان الأكثر تقدمًا والأكثر امتلاكًا لآليات دقيقة وفعالة للضبط، تستحضر الأبعاد الروحية والدينية في الحياة السياسية، بغض النظر عما إذا كان للدولة دين رسمي أم لا".