في هذه السلسلة نفتح الباب لعدد من عشاق الكتاب ليحدثونا عن الكتاب الذي أثر في حياتهم، أو الذي يعتقدون أنه يمكن أن يكون له الوقع الحسن على عموم القراء. اليوم مع مصطفى الكناب وكتاب "مقالة في العبودية المختارة"
لطالما طرحت أسئلة لماذا ترضى الغالبية العظمى من الناس ضمن مجتمع ما بالعبودية تحت الحكم المطلق للفرد الواحد، وتدافع عنه بكل قوة وبشتى السبل والطرق، بالرغم من علمهم بأن هذا الحاكم طاغية ومستبد، سلبهم حريتهم ونهبهم ثرواتهم وممتلكاتهم المادية والمعنوية.
وما يزيد الاستغراب و يدفع إلى طرح مزيد من التساؤلات هو غضب هذه الفئة و انزعاجها من كل مَن يتكلم عن الحرية والمنادة بها، ويعادونه وقد يصل الوضع الى محاربته نيابة عن الطاغية. فحين نبحث عن كيفية صناعة الطغاة و المستبدين لأنفسهم وعن العلاقة التي تربطهم بهذه الفئة العريضة من المستعبدين، وتقوية نفوذهم السلطوي والسيطرة عليهم سواء كانوا بالمئات او الالاف وحتى الملايين.
في إطار البحث عن أجوبة لهذه التساؤلات الغير المتناهية،عثرت، بالصدفة، على كتاب يناقش هذه الظاهرة المستفحلة و الضاربة للجدور في مجتمعتنا العربية. إنه كتاب " مقارة في العبودية المختارة" لصاحبه القاضي الفرنسي اتيان دي لا بوسي والذي كتبه في القرن 16 وهو في عمر 18سنة.
الكتاب عبارة عن مقالة متوسطة الحجم لا تتجاوز 90 صفحة بالتقديم و الهوامش، إلا أنه رغم صغرها فهي مليئة بأجوبة كثيرة غنية بالمفاهيم الفلسفية والمعاني التحليلية عن كيفية صناعة الطغاة، وأيضا المستعبدين الملقبين بالمواطنين المستقرين، الذين يرضون بالذل والخنوع والعبودية طوعا، ويعادون كل من ينادي بالحرية ويؤمن بها.
لقد طرح كاتب المقالة العديد من الاسئلة، التي ستوقض ضمير كل من يقرأها، اذا كان يرفض ان يكون ضمن خانة العبيد و القطيع الذين يخدمون المستبد وينبطحون له. هذا المستبد و الطاغية والذي يتحكم في فئة عريضة من اتباعه الخنوغون والمخنثون، والذين لا تهمه حريتهم او كرامتهم بقدر ما يهمه الحفاظ على مكانته و قدسيته ومجده الزائف، الذي لن يكون لولا خضوعهم له.
فهؤلاء الخنوغون يرون في طاغيتهم هذا إلها مقدسا لا يجب الاشارة اليه، فما بالك بانتقاده. هذه الفئة لا تعلم أن هذا المستبد الذي يتحكم في انفاسهم، قادر على ان يتخلى عنهم عند اول وهلة يشعر فيها بأن الخطر بدأ يتهدده ويهدد منصبه، وقد يحاربهم بمرتزقة من خارج مجتمعه وهنا نعطي مثال بسيط لما قام به العقيد القذافي إبان الربيع العربي وثورة ليبيا.
كيف لشخص واحد يتحكم في مصير الالاف و الملايين من البشر بهذه السهولة؟ هنا اشار كاتب الكتاب ان هذا التحكم يتم بنشر الملذات والملاهي بين اطياف شعبه، لتشغل عقولهم وتبعدهم عن التفكير العقلاني في ما هو أهم وأعمق وألذ، ألا وهي الحرية، فلو ذاقوا لذاتها واستشعروها لما تخلو عنها، ولا ثاروا عليه وخلعوه من منصبه، خاصة وانهم يشكلون الغالبية العظمى وقوة لا يستهان بها. لكنهم يخشون ان يفقدوا النعم الزائلة والزائفة التي يغدق بها عليهم طاغيتهم.
لقد أشار الكاتب في هذا الكتاب ان المستبد يوطد حكمه وسلطانه بالعطاء السخي على شكل هرم تسلسلي بداية من حاشيته و مقربيه، والذين بدورهم ينفقون بسخاء على من اجتمع حولهم من الانتهازيين والمتملقين من حثالة القوم الفاسدين. الذين ينتفعون بهذه النعم على حساب عبودية شعب بأكمله. فحين يجتمع هؤلاء فيما بينهم ويبتعدون عن الحرية ويلجون عالم العبودية طواعية، لإرضاء شخص واحد، و حفاظا على وجودهم خشية زوال نعمهم بزوال طاغيتهم، يجاهدون كي لا يشكل اي خطر عليه.
لم يقف الكاتب عند هذا الحد بل اقترح حلول عدة لمواجهة الطغيان والاستبداد والقضاء عليهم، برفض الاستعباد والتوقف عن منحهم اي شيء له، فالشعوب المستعبدة هي التي تسلم نفسها بنفسها وتفقد حريتها بسوء المعاملة التي تعَامل بها والقبول بذلك. واذا تخلت عن الخدمة التي تقدمها للطاغية، فإنها تلقائيا ستتحرر باستعمال اساليب نضالية، دون الحاجة لمواجهة قتالية، بل بالسعي إلى هجر هذا الواقع المرير والمذل سعيا للحصول على تغيير جذري للوضع.
وقد اشار الكاتب الى ذلك في مقالته، فالذي يسعى الى الذل والعبودية ويرى في ذلك خيارا لوجوده واستمراره لايمكن ان يتحرر ابدا، ما لم يكن شجاعا وحرا في افكاره ليحرر جسده ويغادر خانة العبودية للأبد. فالظلم والعبودية هو نتيجة عن الرضى بالذل والخنوع والتخادل عن مقاومتها والسكوت عن قول الحق والدفاع عنه.
هذه المقالة للمؤلف ستساعد على فهم هذه الظاهرة، وهي صورة لقضايا العدالة والحرية وحقوق الانسان المهضومة، التي تطرح في عالمنا العربي بصفة عامة والمغرب بصفة خاصة.
بالرغم من أنها كتبت في القرن 16، إلا أنها استبقت الزمن او ربما نحن الذين لا زلنا نعيش في تلك الحقبة ولم نتخلص منها بعد، وأنصح القراء بالانفتاح على هذا الكتاب والتمعن فيه، فهو يحتاج لأكثر من قراءة، وأنا على يقين أن كل ما يتنفس الحرية ويطمح اليها وكل من يحمل في داخله ضمير الانسان، سيتخد قرارا جريئا بالقطع مع السلوكات التي تجعله منه عبدا خاضعا ومواطنا مستقرا مصنوعا على هوى الطغاة، كما هو حال المدجنين من السياسين والمثقفين ورجال المال أو أي مواطن عادي قبلوا أن يكونوا عبيدا طواعية.
تجب الإشارة إلى أن هناك كتب اخرى تسير في نفس مضمون " مقالة في العبودية المختارة"، اذكر منها وعاظ السلاطين للدكتور علي الوردي، والنباهة والاستحمار للدكتور علي شريعتي والأمير لميكايفلي. ابحثوا عن حريتكم فلقد ولدتم أحرارا فكيف ترضون باستعبادكم. ذوقوا نسائم الحرية فمع استنشاق أول نسمة لن تتخلوا عنها أبدا.