"تيل كيل" في معابر مليلية.. لقمة عيش مغموسة في المهانة

صورة: أ.ف.ب
غسان الكشوري

ما تزال معابر سبتة ومليلية المحتلتين تحصد أرواح المغاربة والمغربيات، وما تزال تشهد حوادث تدافع وإغماءات ومشاهد حاطة لكرامة الإنسان. "تليكيل عربي" انتقلت إلى عين المكان بالحدود بين الناظور ومليلية، ورصدت المعانات اليومية التي يعيشها ممتهنو التهريب المعيشي، وعاينت الألم والصراخ ومحاولة العبور لبضعة سويعات، من أجل لقمة عيش ممرغة في الوحل.

على الساعة السادسة والنصف صباحا، في اتجاه بني انصار البلدة الواقعة بالمحاذاة مع مليلية، يقول سائق التاكسي لأحد الركاب "لقد تأخرت يا صديقي". فيجيب آخر "الرزق على الله وليس عند الإسبان". هذا الحديث وغيره دار بين أشخاص متجهين من الناظور صوب مدينة مليلية المحتلة، من أجل قوتهم اليومي.

يختار بعض المتاجرين في السلع المهربة، الطريق المؤدية إلى بني شيكر، والتي تعتبر الأقرب والأنسب لمعابر مليلية من جهة الشمال. وعند الاقتراب من المدينة "المحتلة" تترآى عمارات شاهقة وعمران يخلب الأنظار. "انظروا إلى أرضنا كيف يحسن المحتل استغلالها"، يقول أحد الركاب قبل الوصول إلى "معبر الموت" كما يسمونه.

عند النزول تبتدئ رحلة العذاب والحروب الطاحنة من أجل لقمة العيش. ويتهيب الرجال الذين رافقتهم "تيلكيل عربي" إلى باب المعبر ليسلوكوا إلى "الضفة الأخرى". جموع غفيرة واقفة على مدخل معبر باريوتشينو، وصراخ ومشاهد تدافع مهولة لنساء ورجال، أعمارهم بين 25 و60 سنة ، ينتظرون أمام المدخل، ويتأبطون أكياسهم ويتحينون فرصة الولوج.

العبور.. ثم الكرامة !

منذ بضعة أسابيع وبالتحديد مع تنامي أزمة انفصال كاتالونيا، ضيقت السلطات الإسبانية عبر مداخلها لمدينة مليلية المحتلة العبور إلى "أراضيها". هذه الأخيرة تفتح معابرها في وجه المغاربة لوقت محدد وبطريقة "الغوتاغوت"، حيث يدخل بضعة أشخاص "بالتقطير" كل 10 دقائق، لتغلقها في وجه المئات الآخرين. أبناء المنطقة  يتدافعون عند لحظة فتح البوابة التي لا تتعدى بضعة سنتيمات، على طريقة لاعبي "الريكبي".

يسقط بعض الرجال أرضا فينهضون أو يستسلمون للدوس عليهم، فيتوارون عن المدخل. ودون أدنى شروط النظام ولا احترام حقوق الانسان، الكل "يسمح في كرامته" ويتدافع ويقاوم ضربات أشخاص بزي مدني وببنية قوية، يساعدون قوات الحدود في تنظيم الجحافل الغفيرة عبر بوابة باريوتشينو. هؤلاء الأقوياء يساعدون بالسب والضرب بالحزام (السمطة)، وبالعصا التي تبلغ 60 سنتمترا تقريبا، وبالصفع إذا لزم الأمر. ويحاولون منع الاختلاط مع النساء والسيطرة على الأوضاع. لكن ورغم ذلك النساء يسقط بعضهن بعضا.

في هذا المشهد، لا تكفي رجال الأمن المغاربة قوتهم لصد التدافع، ويكتفون بما هو متاح لهم بالزجر ومراقبة المشكوك في هويتهم. وأثناء ذلك رصدت السلطات الحدودية كما عاينتها "تيلكيل عربي" بعض المشبوهين من جنسيات مختلفة، من سيريلانكا ومن موريطانيا جاءوا بجوازات سفر مزورة كانا يحاولان العبور إلى "جنة الإسبان".

السلطات الاسبانية لا تسمح بـ"تهريب" كميات كبيرة من السلع من مدينة مليلية. لذا يعمد المغاربة وممتهنو التهريب المعيشي إلى زيارة مليلية، وجلب سلع محدودة كأنها لغرض الاستعمال اليومي. وأمام أعين المسؤولين من الطرفين، يعاود المهربون الكرة ومحاولة الدخول مرة أخرى. ويقول أحد المهربين بالمعبر أن هامش الربح في الكميات المسموح بها عبر الحدود، " لا يكفي لسد الرمق اليومي، فنضطر للمكوث أمام المعابر كل يوم". وفي الآونة الأخيرة لم يعد بالإمكان العبور إلا لبضعة ساعات.

المعبر الآخر ببني أنصار، تتوافد عليه جموع أكثر ومن جنسيات مختلفة، لكونه المدخل الرئيسي لمليلية، الذي تلج عبره السيارات والشاحنات الكبرى.

نساء على أجنحة الحلم

قبل شهور قليلة أودى التدافع الحاصل بمعبر سبتة بحياة سيدة تمتهن التهريب المعيشي. وكل يوم تعاني فيه النساء ويلات العبور، ويجربن حظوظهن مع "الموت والألم". "بصعوبة شاقة أترك أبنائي في المنزل، ولا أملك حيلة إلا أن أتسلل صباحا أثناء نومهم، لأتمكن من العبور إلى مليلية وجلب ما أمكن من السلع. أنا الآن أنتظر منذ السابعة صباحا، ولحين وقت الظهيرة لم أتمكن من الدخول بعد". تقول سيدة واقفة تنتظر دورها على السياج.

وتضيف المرأة الأربعينية أنها لم تتمكن من الدخول، لكثرة التدافع، "فالأبواب تفتح بين الطرفين في أوقات جد وجيزة، مما يجعل الجميع يحاول الاسراع واستغلال تلك الفرصة". وفي كل يوم تقريبا، "أصبح اعتياديا أن أشاهد نساء يغمى عليهن وينقلن إلى المستشفى، جراء تدافع الكل ودوس بعضهم على بعض"، تقول هذه السيدة وتتطلع إلى ما وراء البوابة.

مع اقتراب وقت الظهيرة، تنفرج شيئا فشيئا البوابات. ويخرج يعض الذين ولجوا صباحا. لكن عند البوابة لا يزال مهربون آخرون ينتظرون فرصة الدخول. نعيمة إحدى السيدات اللاتي لم تستطع الدخول، ورافقناها أثناء عودتها إلى منزلها خاوية الوفاض، وهي تحمل جواز سفرها المهترئ في يديها، تقول إنها تأتي يوميا، باستثناء الجمعة ونهاية الأسبوع، لكن هذه المرة باءت المحاولة بـ"فشل مضاعف".

نعيمة التي تشتغل في هذه المهنة منذ سنوات، تقصد بفشلها أنها ترتاد مليلية، لتقوم بأشغال منزلية لدى سيدة إسبانية. وفي الأوقات الأخرى تستغل دخولها لتجلب أغطيتين فقط (الماطلا) في اليوم لكي تبيعهما. "لم أعد أقدر أن أكون حمالة. وليس لي زوج أو أبناء، وأعيش وحيدة. وأتمشى مسافة طويلة لأستعمل 3 طاكسيات يوميا لكي أصل لمعبر مليلية. لكن أظن أن عدم السماح لنا بالدخول والتضييق الذي باتت تعرفه المعابر، سيجعل (الكاورية) الاسبانية التي أشتغل ببيتها تفكر في طردي"، تقول السيدة وهي مسرعة في مشيها.

أ.ف.ب

النساء أكثر الضحايا

"في هذا الصباح نقلت 3 سيدات إلى المستشفى"، تتذكر نعيمة وتصف سقوطهن بجانبها بحالة مرعبة. وتقول أن "اثنان منهما حملتا إلى قسم المستعجلات بالمستشفى الحسني بالناظور". شاع خبر وفاة إحداهن في ذلك اليوم، فانتقل موقع "تيلكيل عربي" إلى المركز الاستشفائي الذي يبعد أزيد من 13 كيلومتر عن المعبر الحدودي، للتأكد من صحة الوفاة. وعند وصولنا قال (موسى.م) المسؤول عن قسم الوفيات والتجميد، في حديثه إلى الموقع "أن السيدات غادرن المستشفى بعد تماثلهن للشفاء، ولم تسجل أي حالة وفاة، عكس ما تم ترويجه".

تغري مليلية مهربي السلع من كل مدن المغرب، وليس سكان الناظور فقط. ورغم أن الناظوريين لا يحتاجون إلى تأشيرة دخول إلى مليلية، فإن حظوظهم متساوية مع أبناء جلدتهم. وأثناء حديث "تيلكيل عربي" إلى بعض النساء، وحسب لكنتهن، كشفت إحداهن أنها ليست من المنطقة. السيدة رفضت الإفصاح عن اسمها وهويتها، لكنها كشفت أنها غيرت أوراق محل سكناها، من أجل الاستفادة من حظوظ الولوج دون تأشيرة.

وتبلغ النساء نسبة كبيرة ممن يلج معابر اسبانيا، حيث تقدر أعدادهن، حسب المنظمات الحقوقية بمنطقة الشمال، عشرات الآلاف بشكل يومي بباب سبتة ومليلية. وليس بغريب من أن هذه الأعداد التي تتدافع في مدخل لا يتعدى سنتيمات، سينتج عنها حوادث، تصل بعضها إلى الوفاة.

يقدر محمد بنعيسى رئيس "مرصد الشمال لحقوق الانسان" أن سنة 2017 توفيت خلالها 5 نساء بالمعبرين (سبتة ومليلية)، بسبب التدافع، وأن "أزيد من 100 امرأة، أصيبت أثناء محاولة العبور". مضيفا أن نسبة الوفيات والإصابات ارتفعت مقارنة مع السنوات الماضية.

انعكاسات التهريب

هذا التدافع والأشكال المهينة لكرامة الإنسان، لم يعد تقبله الأطراف المدنية في البلدين. ويقول محمد بنعيسى، الذي يشتغل على الأبحاث الاجتماعية والأوضاع الحقوقية بالمنطقة، في حديثه إلى "تيلكيل عربي" أن "هناك رؤية جديدة لتحويل المدينتين إلى قطبين سياحيين، والقضاء النهائي على التهريب". مضيفا أن "المجتمع المدني الاسباني لم يعد يقبل بوجود مظاهر تحط من الكرامة الإنسانية". بنعيسى يحذر من الانعكاسات الخطيرة لظاهرة التهريب. "فإلى جانب الخسائر البشرية، يتسبب التهريب اليومي في خسارة لميزانية الدولة في حوالي 500 مليون دولار سنويا، حسب إحصائيات إدارة الجمارك المغربية"، على حد قوله.

وأثناء التنقل بين المنطقتين، عبر وسائل النقل أو في الأزقة، وداخل أروقة المستشفى، لا يدور الحديث إلا عن إغلاق الحدود في وجه الناظوريين، وعن تخوفهم من تطور الأوضاع وانعكاسها على حياتهم الاجتماعية والاقتصادية.

أصحاب المنطقة، في حديثهم إلى موقع "تيلكيل عربي"، أصر بعضهم على وضع حل جدري لأمرين: "إما أن تنظم عملية تسيير هذه المعابر بطريقة تحفظ كرامة الإنسان، أو أن يخلقوا للشباب المغربي فرص شغل تغنيهم عن التذلل عند الغير"، على حد تعبيرهم.

ويعتبر مرصد الشمال أن معبري سبتة ومليلية "معامل إنتاج العنف". لكون "قطاع التهريب غير قانوني ويشمل كل المظاهر الحاطة من كرامة الانسان"، مما يساعد على "التفكك الأسري والهدر المدرسي، وكذا ارتفاع معدلات الجريمة والتطرف". ويرى محمد بنعيسى أن الدولة المغربية "يجب أن تقوم بتنمية المناطق المحيطة بالمنطقتين المحتلتين".