كشفت واقعة أستاذ الرياضيات بخريبكة الذي تورط في تعنيف تلميذة بالغت في شغبها داخل الفصل الدراسي، كيف تراجع النقاش حول المنظومة التربوية والتعليمية من الحديث عن الجودة والمناهج إلى حديث عن سلوكات فجة من بعض التلاميذ و بعض أعضاء الإدارة التربوية، إلى حديث عن محاضر الشرطة واستدعاءات النيابة العامة، ومن الحديث عن المدرسة والفصل إلى الحديث عن السجن والزنزانة، ومن مفاوضات النقابات من أجل تحسين شروط العمل إلى مفاوضات مع تلميذة للصفح عن أستاذها... هذه الثنائيات المتناقضة والمؤلمة؛ هي خلاصة ما وصلت إليه المنظومة التربوية والتعليمية من سقوط مدوي، و النتيجة الطبيعية لذلك؛ هي أن التلاميذ أصبحوا في مواجهة الأساتذة والأساتذة في مواجهة التلاميذ، وكلاهما ضحايا هذا السقوط المؤلم.
الفعل الذي ارتكبه أستاذ خريبكة مدان بكل تأكيد، لكن مع ذلك لا يمكن التعاطي معه من زاوية الحق العام، فظروف الفعل ومكانه وسمعة الرجل، توضح بما لا يدع مجالا للشك أننا بالتأكيد لسنا أمام قاطع طريق ولا مجرم بالفطرة، لذا وجب التعامل معه وفق وضعيته الحقيقية كأستاذ وتكييف المتابعة والعقوبة يجب أن يستحضر ذلك، ليس من باب إهدار حقوق التلميذة ولكن لإرجاع الموضوع إلى مكانه الطبيعي وهو جدران المدرسة.
علينا جميعا أن نطرح السؤال حول لماذا حدث ما حدث؟ وهو سؤال يختزل أسئلة أخرى منها ما يتعلق بالواقعة التي نتحدث عنها، أو بوقائع مشابهة، لم يكن لها فقط حظ أن توثق و أن تبث عبر مواقع التواصل الاجتماعي. من مثل هذه الأسئلة مثلا، ماذا يفعل تلاميذ ذكورا و إناثا تجاوزوا 17 و 18 سنة في مستويات مثل الثامنة والتاسعة إعدادي؟ كيف يمكن لشاب أو شابة في مثل ذلك السن أن يدرس أو تدرس مع أطفال في عمر 13 و14 و15 سنة؟ هل تنتظر وزارة التربية والتكوين المعجزة من شباب وشابات تعرف مستوياتهم الضعيفة دراسيا؟ في حين أنهم أصبحوا راشدين و يعيشون كل مغامرات (...) الراشدين بكل ما تحمله وتختصره كلمة مغامرات من معاني، فكيف يمكن وضع راشدين بجانب قاصرين في فصول دراسية مكتظة، فحتى المؤسسات السجنية لها معايير فيما يتعلق بفئات الأحداث والراشدين، فما بالك بالمدارس...، ألا يستدعي الأمر التفكير في حلول تتعلق باحترام توزيع الفئات العمرية على الفصول الدراسية أو توجيه هؤلاء التلاميذ إلى أنواع أخرى من التكوين بعيدا عن التكوين العام، و خاصة التأهيل المهني و اكتساب حرف ومعرفة تطبيقية لمعارف بعينها مع فتح الباب أمامهم دائما لمواصلة تكوينهم العام في المسار التقليدي.
إن واقعة خريبكة كشفت أيضا حجم البون الشاسع بين المجتمع و ما يجري حقيقة في فصول الدراسة، إذ يمكن القول إن كثيرين منا يحملون تصورات مثالية عن المدرسة في إسقاط لتجاربهم الشخصية ولتجارب الأجيال التي سبقتهم، حيث كان للمدرسة حرمتها وللأستاذ والأستاذة مكان خاص، وكان التلاميذ في أقصى شغبهم لا يتجرؤون على تجاوز الأساتذة كخط أحمر، و إذا حصل ووقع استثناء، فإنه يكون حدثا شاذا وغريبا، بينما جزء من تلاميذ اليوم و بفعل الفراغ الكبير الذي تعرفه البلاد، و سياسة قتل الفعل السياسي والثقافي والتربوي الجاد والأزمة القيمية التي يعرفها المجتمع وسيادة مظاهر الانحراف وتمدد زمن المراهقة و تقلص عدد أفراد الأسر بفعل تراجع الخصوبة لأسباب اقتصادية، تحول إلى نموذج في الأنانية ومحلل كليا من المسؤولية ومستعد تلقائيا لإرضاء رغباته المادية و الغريزية بدون مرشد ولا سقف، نفس الأمر يمكن أن يقال عن جزء من الأسرة التعليمية ممن يميزون تلقائيا بين الوظيفة والمهنة، فهم لا يرتبطون بالتعليم كمهنة في نبلها و رسالتها، بل فقط كمورد للعيش وما تفتحه من إمكانية لموارد أخرى عبر دروس التقوية التي تستنزف جيوب الأسر بمبالغ خيالية، فهذا النوع من الأسرة التعليمية يعالج مشاكل ضعف الأجور في القطاع العام بتعويض ذلك من أسر التلاميذ حتى لو بلغ الأمر الاتجار في النقط و تهديد مسار تلاميذ غير "متعاونين"، و ذلك أهون على هذه الفئة من الانخراط في معركة الكرامة من أجل أن يكون لرجال ونساء التعليم المكانة التي يستحقونها، بذل الصورة السلبية التي يراد إلصاقها بهم في إهانة للعلم والمعرفة، و هو على كل حال فعل غير بريء...
وزارة التربية الوطنية فضلا عن فشلها الذريع في المنظومة التربوية والتعليمية ككل، تعتقد أن تدبير قطاع حساس واستراتيجي مثل قطاع التعليم، يتم عبر المذكرات والقرارات التي لا يربطها رابط مع واقع المدرسة العمومية ببلادنا، و أنها لا تقوم سوى برمي ثقل المسؤولية على الإدارة التي تقوم برمي ذات الثقل على الأساتذة و هؤلاء بدورهم، ومع تقدير الفارق في القدرة على المقاومة، يرمون ذات الثقل على التلاميذ المثقلين أصلا بهموم و محن أسرهم، و بأحلامهم الشخصية التي لايبدو لهم أي بصيص من الأمل في تحقيقها في بلد يوزع اليأس بعدالة تامة.
في واقعة خريبكة التلميذة والأستاذ هما معا ضحايا، لكن الضحية الأكبر هي المنظومة التربوية والتعليمية التي تعني أن مستقبل بلد بكامله في كف عفريت، بلد ينظر المسؤولون إليه و هو يمضي إلى في نفق مظلم، و هم باسمون...
وزارة التربية الوطنية التي سكتت عن فساد ملايير المخطط/"بوغطاط" الاستعجالي، وعن حجر الدراسة التي تضم 70 تلميذا، وعن فصول الدراسة التي تلتحف السماء في عز الشتاء، و عن الوجبات البئيسة في المطاعم المدرسية، وعن هجرة أزيد من مليون أسرة للقطاع العمومي، وعن مدارس موجودة في الخريطة المدرسية و لا وجود لها على أرض الواقع، وعن مدارس بدون مرافق صحية ولا ماء ولا كهرباء، وعن داخليات أشبه بالملاجئ ...،هذه الوزارة التي تخلت عن كل هذه المسؤوليات، وهرول كبار مسؤوليها إلى بيت التلميذة المعنفة من قبل أستاذها في خريبكة، ليس لمعالجة الواقعة من جذورها حتى لا تتكرر، بل فقط لتسويق نفسها كأم حنون و الاستثمار الرمزي السخيف والمخيف في "المواجهة" بين التلاميذ والأساتذة...بدل تحمل مسؤوليتها بجد.