اعتاد التلفزيون المغربي أن يخلق الجدل في كل شهر رمضان. وتتسبب برمجته، القائمة بنسبة كبيرة على شراء أعمال درامية وكوميدية عبر ميزانية إنتاج تتسابق شركات السمعي البصري على تنفيذها، في امتعاض كثيرين من جودتها ورسالتها وجماليتها المصورة والمكتوبة. فبأي حال عاد رمضان هذا العام على التلفزيون العمومي الوطني؟
في دوامة الدورة الإنتاجية تتشابك الخيوط، ويتيه تحديد المسؤوليات عن الجودة، ويتحكم رأس المال في الإبداع والابتكار، ويضغط مبدأ البيع على الرسالة الفنية، خاصة في قناة عمومية، ممولة من جيوب دافعي الضرائب، ويبقى المنتوج النهائي، عبر وجوه كتابه ومخرجيه وممثليه وتقنييه، الطافي على السطح، للتعرض لأشعة النقد، خاصة من جمهور يهوى وضع الأصبع على النقاط السلبية.
رمضان في التلفزة هذا العام ليس ككل عام، فقد تسبب الحجر الصحي الذي دخلته البلاد، منتصف مارس، في إرباك حقيقي لعملية تصوير مجموعة كبيرة من الأعمال، وتمكن فيروس "كورونا" المستجد من شل حركة الوسط الفني، لكن، في المقابل، كان الرهان مطروحا لتقديم منتوج تلفزي ترفيهي لمتفرجين يعيشون الاحتجاز الطوعي في زمن الوباء. رمضان هذا العام عرف إنزالا إنتاجيا من طرف شبكة القنوات السعودية "mbc" عبر فرعها المخصص للمغرب، "mbc5".
هذا العام سجل أيضا أخطاء تقنية في أعمال درامية كثيرة، وحالات "تناسخ" أو "طيران أفكار" لقصص مسلسلات.
"مقاطعة" التلفزيون العمومي
يؤكد الناقد السينمائي حمادي كيروم على مواصلته مقاطعة مشاهدة التلفزيون العمومي، ويرى ألا جدوى في الحديث عن إنتاج تلفزي في الوقت الراهن، لأن كل ما يقدم ما هو، في نظره، إلا "إلهاء"، معتبرا أن التلفزيون في المغرب ابتعد عن أداء وظائف الإعلام التقليدية، وهي "الإخبار والتثقيف والتوعية".
ويؤمن الناقد السينمائي، والذي اهتم على مدار يقارب العقدين بالتلفزيون، أن لا جدوى من النقد التلفزي في المغرب، لأنه يشبه محاولة قط إمساك انعكاس صورة فأر في مرآة!
ويضيف كيروم، لـ"تيلكيل عربي": "لقد ابتعدت عن قضايا التلفزيون منذ مدة، وفي جهازي بالبيت، بضع قنوات فقط هي التي أتابعها، قناة فرنسية للأطفال لأن لي ابنا صغيرا، وARTE وبطبيعة الحال نيتفليكس".
ويرى كيروم إن أكبر مشكلة مرتكبة اليوم من طرف التلفزيون العمومي، هي غياب قناة عمومية موجهة للأطفال، ويقول "قبل الحديث عن جودة ما يقدم، لا أفهم كيف لا يتوفر الطفل المغربي على قناة خاصة. كيف نريد الإعداد لجيل الغد، ونحن نغيبه عن الإعلام؟".
أزمة التلفزيون.. أزمة كتابة
من جانبه، يقول الناقد السينمائي محمد بنعزيز إنه كتب عن الكوميديا الرمضانية مقالات كثيرة منذ 2008، وأن ليس لديه ما يضيفه بصدد الإنتاجات الرمضانية لأن الملاحظات لا تؤخذ أصلا بعين الاعتبار، ويضيف "سأقارب المسألة من زاوية آنية: ما الأسئلة الجديدة التي طرحها الوباء على المشهد الثقافي؟ بفضل العزلة انكشفت أشياء... فجأة توقف المشهد فتحجر كل واحد في مكانه وسمح ذلك بإعادة تقييم الملعب واللاعبين".
ويشدد بنعزيز على أن أزمة الإنتاج التلفزي تتجسد أيضا في الكتابة، إذ أن أغلبها لا تتوفر على شرط مهم، وهو أن تتوفر على تحضير زمني طويل، ويشبهها بـ"طبخ الطجين"، ويقول "يلزمك فكرة وملاحظات، ثم حبك القصة، بدون هذا الشيء، لن يكن هناك عمل محترم".
ويقارن بنعزيز بين نقد السينما ونقد التلفزيون، ويرى أن في عالم السينما "يظهر المنتجون والمخرجون وكتاب السيناريو وهم يُمتحنون في العروض والمناقشات ويعرف مستواهم الثقافي، لكن عالم التلفزيون غامض لا يظهر إلا على الشاشة في رمضان، أما المنتجون والفاعلون الذين تدل عليهم ثمارهم فلا يظهرون بالنسبة لعالم التلفزيون".
بالنسبة لبنعزيز، أزمة التلفزيون المغربي هي أزمة كتابة محتوى ناضج وعميق، إذ أن الكتابة بنت مراقبة المجتمع. ويشرح "تتطلب الكتابة طاقة رهيبة: مطالعة وعزلة وملاحظة وتحرير وفرز وتنقيح. يفرض الإبداع تدبيرا حادا للزمن وتدبيرا احترازيا لطاقة التركيز لكي لا تتبدد في انشغالات تافهة. يحتاج البحث والكتابة والإبداع عامة قوة عقلية ممتدة في الزمن، وهذه هي التي تجعل الفنان قادرا على إعادة إنتاج نفسه وتجديدها".
وحسب بنعزيز، فإن كتابة نص عميق أشبه بإنجاب طفل، إذ لا يمكن القيام بذلك فجأة في ساعة. ويزيد موضحا "لا يمكن ترقيع الطفل بنقل أعضاء له. يحتاج الأمر تسعة أشهر من التحضير ليكتمل التكوين العضوي. يصقل الزمن الكتابة، لذلك يجب تعبئة الطاقة الإبداعية بالعزلة. الكتابة السريعة المرتجلة هي كتابة ببغائية؛ أي لا تمد العقل بشيء من الحاضر. لو تعاقدت التلفزة الآن مع خلية كتابة محترفة، فيها قصاصون، فستكون أفلام ومسلسلات 2021 في المستوى. الحرث البكري بالذهب مشري".
الوقت سيد العمق و"mbc" تدق الأجراس
لا تنكر بالنسبة لبطلة مسلسل "ياقوت وعنبر"، الذي تبثه القناة الأولى، أن عامل الوقت مهم جدا في عملية الكتابة، بل تؤكد على ذلك.
وترى نورا الصقلي، التي شاركت كتابة السيناريو رفقة الممثلة سامية أقريو وجواد لحلو، فإن كتابة هذا العمل بدأت قبل ثلاث سنوات، وتحديدا مباشرة بعد مسلسل "سر المرجان"، وتقول، في تصريح لـ"تيلكيل عربي": "تكلفت سامية بالفكرة العامة، ثم مررنا للاشتغال على تطوير القصة وحبك عوالمها وشخصياتها".
وتشدد الصقلي على أن التوفر على الوقت في مرحلة الكتابة يسمح بالحفر بعمق في التيمات، سواء الرئيسية أو الموازية".
وتزيد موضحة "كما يقول جيل دولوز، فإن اختيار التيمة يأتي من الحاجة، والتيمة في 'ياقوت وعنبر' هي النرجسية. النرجسية التي دفعت أما إلى استبدال ابنتها، والنرجسية التي تجعل من زوج قاهرا لزوجته ومسيطرا على عقلها وشخصيتها عبر غسيل للدماغ".
لا ترى الصقلي أن عملها فيه تحامل على الرجل، من خلال تصويره كذئب مفترس يجري دوما وراء رغباته، سواء كانت مالا أو جنسا أو نسلا، وتضيف "أبدا ليس هناك أي تحامل على الرجل. فيجب أن نعرف أن الجريمة الرئيسية في المسلسل اقترفتها امرأة، وهي بطلة العمل الدرامي، عندما قررت استبدال مولودتها بذكر حتى تحافظ على زواجها وسلطتها".
أما عن التشابه في قصة مسلسلها ومسلسل يعرض على قناة "mbc5"، tقالت الصقلي، لـ"تيلكيل عربي" إنها توصلت بأنباء عن مسلسل مغربي ثان به تشابه في الأحداث، وأنها لم تفهم بعد "الحكاية"، وهل هناك تسريب لقصة عملها الذي انطلقت كتابته قبل 3 سنوات.
وزادت "هل وقع تسريب؟ لا أعرف. ربما مع فترة الحجر الصحي، لم أبحث في الموضوع كفاية، ولا أريد أن أقيم زوبعة في فنجان. إنه أمر مزعج حقيقة، فهل حقا للأفكار أجنحة؟".
ويفسر خالد العثماني، الكاتب العام للغرفة المغربية للتقنيين والمبدعين السينمائيين، المنضوية تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل، وجود أخطاء مهنية فادحة في أعمال درامية معروضة هذا العام إلى تبني "نظرية" الاستعجال في الإنتاج.
ويقر العثماني أن ظرف "كورونا" ليس هو السبب، لأن 80 في المائة من الأعمال صورت قبل تطبيق حالة الطوارئ الصحية. ويعزو هذا الأمر إلى سببين: عامل الاستعجال؛ إذ غالبا ما تفتح طلبات العروض قبل ستة أشهر من موعد البث، وهو ما لا يترك وقتا كبيرا لمنفذي الإنتاج.
ويضيف "أغلب الأعمال تعتمد كتابة بضع حلقات هي عبارة عن تصور عام للعمل، بمعنى أنه في حالة موافقة القناة على العمل، فإنه ينبغي مواصلة الكتابة، ثم تهييء الفريق الفني والتقني، والاشتغال على التصورات في الديكور والملابس، واختيار المناظر الحية. كل هذا قبل المرور إلى التصوير، والذي يجب أن يكون في مدة ثلاثة أشهر. إذن، الوقت يشكل أكبر عامل ضغط، ما يؤدي إلى ارتكاب أخطاء بسبب الإجهاد. هناك تقنيون وممثلون يشتغلون أكثر من 15 ساعة في اليوم أثناء مرحلة التصوير أو ما بعد التصوير".
ويضيف المتحدث أن العنصر الثاني المسؤول هو أن عمليات التصوير لشهر رمضان تجري في توقيت واحد تقريبا؛ سواء تعلق الأمر بالوثائقيات أو الربورطاجات أو المسلسلات أو السيتكومات أو الأفلام المتلفزة، ما يجعل العثور على تقنيين أمرا صعبا، خاصة إذا تزامن الأمر مع تصوير أعمال أجنبية في البلاد.
ويؤكد العثماني أن دخول شبكة قنوات "mbc" رفع من مستوى التنافسية في مجال الإنتاج السمعي البصري، كما رفع الطلب على التقنيين.
ويرى العثماني أن دخول القناة السعودية على الخط سيؤثر على الإنتاج التلفزي في القطب العمومي، ويقول "ببساطة، لأنهم يتوفرون على السيولة اللازمة، وبالتالي فإنهم يستقطبون كل الفنانين، والجميع يرغب في التعامل معهم، لسببين: القدرة المالية على الإنتاج، وثانيا السيولة، فأغلب الفنانين والتقنيين الذين تعاملوا هذا الموسم مع القناة تسلموا تعويضاتهم المالية، في حين أعرف تقنيين لم يتقاضوا بعد أجورا عن أعمال بثت في رمضان الماضي، وإجمالا يمكن القول إن دخولها حرك السوق بشكل إيجابي".