كلما حدثت أزمة ما إلا وتم تسليط العيون نحو المفكر في خلط سافر بينه وبين المثقف، مع ما يرافقه من استنكار لصمته إزاء ما يحدث، ورميه أحيانا بنعوت لا تخرج عن قاموس الخيانة والتطبيع مع ما يجري، والاستفادة الضمنية من هذا الذي يحصل. وأما ما لم يتم الانتباه إليه، فهو أمر توجب أخذ فكرة عنه خاصة نحو الجاهلين به، ولا شك أن أوله انتقاد ملاذ المفكر أي برجه العاجي الذي ينظر من خلاله إلى العالم من فوق، وكأنها نظرة لا ترقى إلى عمله بتاتا، رغم أنها تتنزل منه منزلة القطب من الرحى.
لنعلم أن البرج العاجي للمفكر، ليس هروبا أو تخلفا عن الركب أو تكبرا عن الحدث، ولكنه نظرة متريثة، واتزان طويل بنفس طويل لا يتأثر بالحماس ولا يذوب داخل دوامة التسرع في الحكم، بل هو حذر مخصوص لأهل الفكر وسبيل لا مناص من سلكه، ورويّة زمنها ثقيل تتغيى تكوين صورة سديدة مكتملة الأركان، ليس بغرض التغيير، ولكن من أجل الفهم والتحليل وانتهى الأمر. ذاك إذن عمل المفكر.
ولكن التهمة التي تلتصق به، إنما تعود إلى تأثير الماركسية على الجانب الفكري، سواء من خلال كتابات ماركس ونخص بالذكر مؤلفي "بؤس الفلسفة والإيديولوجية الألمانية" التي منحت صيغة منحرفة عن عمل الفلاسفة والمتمثلة في السعي إلى تغيير العالم بدل تفسيره. أو من خلال تلقف هاته الكتابات التي ستُتوج بعدئذ بمفاهيم تولدت إبان القرن العشرين من قبيل المثقف الملتزم وما جاوره من صفات ليست من صميم المفكر في شيء، لأسباب عديدة نحصرها في ضروب وبيّنات مختصرة.
ـ أولا: يعني التزام المثقف كما هو سائد ـ وليس المفكر في شكله الشائع ـ المشاركة في القضايا التي تهم دنيا الناس خاصة ما يتعلق بالسياسي والاقتصادي والاجتماعي، لكن إذا أدلى بدلوه نحوها سيتغير خطابه من جانبه الفكري التحليلي المحض، إلى جانبه الإيديولوجي. وكما نعلم، فإن بنية الفكرة غير محدودة ومحايدة، تشتغل في الخفاء ونفسها طويل يقاس بعشرات السنوات أو الحقب أو البراديغمات les paradigmes إن صح القول، بينما تتميز القرارات السياسية مثلا بالمزاجية والتغير السريع واللعب على تزييف ما يقع، ضمانا للهيمنة السياسية والربح الاقتصادي.
ـ ثانيا: إذا التزم المفكر في قضية سياسية معينة وشارك فيها مشاركة مباشرة، ستُنزع عنه مهمة التفكير لصالح مهمة الدفاع عن الفكرة واعتبارها مبدأ غير مشمول ولا مخصوص بالنقد أو المراجعة المستمرة، وأما إن سار على هذا المنوال، يكون قد جر عليه نقدا من طرف الذين كانوا يبايعونه قبلئذ ويهتفون بوجوده معهم، ولنا في ذلك أمثلة عديدة لمفكرين سقطوا في هذا المطب، فما كان منهم سوى الانصراف من دائرة الإيديولوجيا بصفة نهائية، طلبا للعزلة عن الحشود، وهي للإشارة عزلة تعتبر جزءا لا يتجزأ من التفكير ليس كعمل أو وظيفة أو مهمة كما رسمتها الماركسية ذات يوم، ولكن باعتبارها لعبة جدية un jeu sérieux
ـ ثالثا: لا يجب تصنيف المفكر كونه لسان حال الواقع السياسي، فثمة بون شاسع بين الاثنين يقاس مجازا بالسنوات الضوئية، فالقرارات السياسية قرارات تميل إلى المصلحة، بينما لا يؤمن الفكر بذلك، لأن ما يهمه ليس القرار في حد ذاته، وإنما البحث عن إرادة القوة التي رفعت من شأن هذا بدل غيره، وفضلت تفسيرا ما ثم رمت بما لم تستسغه وإن كان ذات يوم مستساغا. لذا فتقلب السياسة ومزاجيتها وتسرعها لا يمكن أن يستقيم في كل حال من الأحوال مع تبصر الفكر الذي إن تم تحويله إلى وصفة إيديولوجيا تخدم السياسة، نكون قد جنينا عليه أولا وأخيرا.
ـ رابعا: لم يفكر ماركس بعقلية نهاية القرن التاسع عشر، والتي بدأت تؤمن بإمكانية تأثير قوى خفية على تاريخ الإنسان من قبيل التاريخ واللاشعور وإرادة القوة والإبستيمي... وهي التي ستمهد للبنيوية لاحقا. لكن الغريب في الأمر أن ماركس تتلمذ على يد هيجل الذي تتبع تطور الروح l’esprit وسيرورة التاريخ معليا من مكره sa ruseعلى حساب عاقلية الإنسان. وأما الأغرب مما قيل، أن ماركس بدوره عادة ما تم تصنيف فلسفته ضمن فلسفات اللاشعور التي تعطي أهمية للصراع الطبقي والبنيات الخفية والوجود الاجتماعي في تكوين وعي الإنسان، فأي تأثير مباشر أو تغيير سيكون للمفكر أو الفيلسوف أمام هاته القوى التي لا يمكن الانفلات من قبضتها؟
سنرتب كل هذا في جاموع، كي نقول إن عزلة المفكر جزء لا يتجزأ من التفكير، وأن صمته تأمل واستغراق لا ينشد التغيير وإنما الفهم والتفسير، علما أن تفسير العالم أصعب من تغييره لأنه يتطلب آليات التحليل المعقدة، كما يبتغي مجهودا شاقا ونفسا طويلا وعدة فكرية شرطها الأول تخصيص بياض اليوم وسواده بين سطور الكتب للفهم قبل التفسير الذي يعتبر ثقلا جاثما على المفكر، وذلك مخافة من أن ينأى بنفسه عن مراده، أو يتيه داخل سطور الأفكار وسجون الكلمات فيحكم على نفسه بالمؤبد، فلا هو بمفسر لما يعتريه، ولا هو بحُرٍّ إزاء ما يفكر فيه. فأي عمل هذا وأية مغامرة إذا لم تكن العزلة عنوانها والصمت ديدنها؟