طباشير الدولة.. صفقات الوزارة.. هو وأنا

هادي معزوز

لازال يحتفظ لحد الساعة بأول قطعة طباشير كتب بها أول درس في مسيرته التعليمية.. طباشير أبيض موضوع بعناية في محبرة تعود إلى عشرينيات القرن الماضي/ يبحث في نفسه عن أثر الماضي الذي مضى، هو أثر فقط، مثل الجرح الذي شفي لكنه احتفظ لنفسه بحق البقاء كأثر موشوم في الجسد ثم الذاكرة.

قطع الطباشير كانت مثل أعضاء جسده، في جيب الوزرة كما السترة كما السروال والمحفظة والمقلمة وأحيانا بين أصابعه.. لم يكن الطباشير بالنسبة إليه أداة يكتب بها على السبورة فقط.. الطباشير علاقة وطيدة بينه وبين يديه والسبورة، الطباشير أداة عجيبة وقد تمكنت من تحويل الفكرة المجردة إلى عبارات مكتوبة.. بل واستعادة حضورها بعدما كانت مخزنة في ذاكرته المهترئة التالفة.. يضعه الطباشير أمام طقوس لا يحلو الدرس بدونها: أصابع اكتسبت لونا آخر غير لونها الأصلي/ نفض اليدين في كل آن تاركا في مجالها الفضائي غبارا ينتشر بهدوء وبطء إلى أن يختفي كأنه لم يكن/ ماذا تبقى له من الأفكار التي دونها غير بقايا خربشات لم تستطع الممسحة إخفاءها.. الممسحة لا تمحي بل تمنح فرصة جديدة لأفكار جديدة.. الممسحة تظهر هذا الذي اختفى ثم تخفيه كي تُظهر مكانه شيئا جديدا. تشكل والطباشير ثنائية وتوليفة غريبة تعيد كل شيء لكن باسم الاختلاف وليس التشابه.

عندما يكتب بطباشيره فهذا يعني أنه أظهر لكنه أخفى قبلئذ ما كان ظاهرا. كل ما يظهر يجب أن يختفي كي يمنح مكانه لشيء آخر وقد أُعلن عن اختفاءه لحظة ظهوره. هذه هي رمزية الطباشير بالنسبة إليه، الطباشير يخفي طلبة العلم أيضا, يخفي زمن الدرس كي يظهر بديله الجديد. يخفي التذكر لصالح النسيان ويعلي من هذا الأخير كي يمنح لنفسه إمكانية جديدة للظهور والاستمرار لكن بأوجه متعددة لا حصر لها.

عندما ينتهي الدرس يتوجه للصنبور قصد غسل يديه مما علق فيهما، يترك الطباشير بياضا ناصعا ويترك أيضا جفافا في يديه، صحيح أنه يحب الاعتناء بنفسه مثل أمير مدلل، لكنه لم يكن يمتعض بتاتا من أثر الطباشير المعكوس سواء على مستوى التنفس أو على مستوى اليدين واللباس.

وعندما قررت الوزارة تغيير الطباشير بأقلام الحبر وتغيير لون السبورة من السواد إلى البياض، شعر بنوع من الارتجاج الوجودي. كان يحب الطباشير والسبورة السوداء التي يتمرد على قوانينها البيداغوجية، فتراه يكتب هنا وهناك، تارة بالعربية وأخرى بالفرنسية، وأحيانا أخرى بالإغريقية.

كان الإغريق شفهيين لأنهم كانوا يمجدون النسيان، هو الآخر يمجد النسيان انفلاتا من الفكرة الوحيدة التوتاليتارية.. الطباشير هو الآخر عندما يقرر الكتابة فإنه يعلن نسيان الفكرة الفائتة كي يعوضها بفكرة جديدة وهكذا دواليك.. كانت مسألة الانقطاع عن الطباشير تشبه لحظة فطام الطفل. لازال يشده لحد الساعة الحنين إليه وإلى السبورة السوداء. كل شيء أسود/ وحده الطباشير أبيض، هو في حاجة إلى السواد كي يعرف أنه أبيض بياضا في بياض..

عندما يدق الجرس وتنتهي كل الحصص يعيد الطباشير إلى العلبة الكرتونية، يمنحه فترة راحة مؤقتة.. الطباشير أكثر الأشياء نكرانا للذات إلى جانب الشمعة، الشمعة تحرق نفسها كي تضيء ظلامنا، والطباشير يأكل من نفسه كي يوسع ويمدد ظلام التعطش للمعرفة مادام أننا كلما عرفنا أكثر كلما ازداد جهلنا بالأمور. لون الشمعة أبيض ولون الطباشير كذلك. شكل الشمعة لا يختلف بتاتا عن شكل الطباشير. أحد الأحزاب السياسية اختار الشمعة رمزا وعلامة له، لكن لم يسبق أن اختار حزب ما الطباشير رمزا وعلامة له، لماذا؟ لا يمكن أن نجيب لأننا لا نعرف إلا ظاهر الشمعة وظاهر الطباشير دون أن ننفذ إلى النومين le noumène شمعتهم زرقاء وطباشيرنا أبيض.. شمعتهم ليست بيضاء بياض الطباشير.. على العموم لازال مدينا للطباشير. لازال يحبه أثرا وليس أداة فقط، وإذا خاله أداة فمن أجل تهديم الأفكار وتقويضها دون تعويضها بأي شيء.

 ذات يوم قررت الوزارة بميزانية جد ضخمة تغيير السبورة السوداء والطباشير الأبيض بسبورة بيضاء وطباشير أسود، هل هي لعبة تغيير الألوان لا الأدوار؟ من الأفضل أن نسأل القائمين على الأمر دون أن نسأل عن ملايين الدراهم والصفقات المشبوهة التي ملأت جيوب المسؤولين دون أن تملأ أدمغة طلبة العلم أو تحرك مادتهم الرمادية. لقد كان الطباشير فأل خير على مدراء الأكاديميات والكاتب العام للوزارة وأصحاب الشركات الفائزة بصفقات الإمداد، لكنه كان فأل شر عليه لأنه يفضل الطباشير على قلم الحبر ويفضل الخشب على البلاستيك، ويفضل الأسود على الأبيض.

عندما كنت تلميذا في الباكالوريا كتبت قصة عنوانها: "طباشير الدولة" بطلها أستاذ الأدب الفرنسي، كان محبوبا من طرف طلابه، كانوا متأثرين به كثيرا.. وكان عندما يحمل الطباشير يصمت الجميع في إنصات وخشوع لما يقول ويكتب. طقس يؤديه بكل نكران للذات ومحبة منقطعة النظير.. ذات يوم سيقتحم رجال الشرطة أو رجال "البوليس" قاعة الدرس ثم سيعتقلونه أمام طلبته. يصاب الجميع بالدهشة الممزوجة بالخوف والشفقة والسعي إلى الدفاع عنه.

تم اعتقاله لأفكاره الجريئة، سيُرمى الطباشير الذي كان يحمله في الأرض ثم سيتحول إلى شظايا صغيرة عندما دكه حذاء أحد رجال "البوليس" أنهيت القصة بمشهد من خلاله سيلتفت الأستاذ إلى طلبته لآخر مرة، رسم في ثغره ابتسامة طفولية فيما دمعت عيونهم لأنهم كانوا يعرفون أن هذا هو آخر لقاء بينهم وبينه. قررت أن أنهي القصة في هذا المشهد كي أمنح للقارئ تأويلات لامتناهية وأعلن موتي كمؤلف.

كل الأشياء تموت ويبقى وجه الدولة جاثما حاضرا جليلا وكريما. أينما وليت وجهك فثم وجه الدولة. الطباشير دون دولة لا شيء، والدولة دون طباشير دولة. الطباشير في حاجة إلى الدولة كي يُصنع ويُستهلك شريطة ألا يكتب كل الأفكار خاصة تلك التي تتحفظ عليها الدولة. أما الدولة فإنها ليست في حاجة إلى الطباشير وإنما هي في حاجة إلى السبورة البيضاء البلاستيكية التي بيعت بثمن قليل في الخفاء، وبيعت أيضا بثمن ضخم في الفواتير من طرف رجالاتها أي رجالات الدولة. بعضهم لازال مسؤولا في مكاتب وزارة التربية الوطنية، هي حقا تربية وطنية تربينا على خيانة الوطن.

الوطن خائن لأنه أنجب من يخونه. الطباشير وفيّ لأنه يكتب ما يجب أن يُكتب، يختفي الطباشير دون أن تختفي خيانة الوطن. يختفي كل شيء دون أن تختفي الكائنات المحترفة سرقة الوطن. تبا لوطن رجاله دون شهامة تُذكر.

عندما كنت صغيرا كنت أقسم طباشيري إلى قسمين، قسم أكتب به في اللوحة وقسم آخر أرسم به على جدران حديقة بيتنا. أرسم الجبال والطيور والأشجار والبيوت الواطئة والسياج. أحيانا أكتب بعض العبارات، هي عبارات بدون معنى. لست أنا من كتبها بل إن الطباشير هو الذي كتبها عن طريقي. الطباشير ذات وأنا أداة.

عندما أصبحت مراهقا لم يكن الطباشير يخاصمني، كنت أكتب به الشعر والحكم، ولما وصلت إلى المرحلة الثانوية كنت أكتب به عبارات ثورية معتقدا أن بإمكاني تغيير العالم.. هذا الطباشير لي وليس للدولة لأني اشتريته من أجلي ومن أجل هواياتي الرعناء، لكن دون عقد صفقات مشبوهة، اشتريته وفي نيتي ألا أغيره، بينما اشترت الدولة الطباشير وفي نيتها تغييره بقلم الحبر. سؤال ختامي: ما علاقة المخطط الاستراتيجي وإصلاح التعليم بتغيير الطباشير والسبورة السوداء بقلم الحبر الشاحب والسبورة البيضاء؟ هل سنحتل مراتب متقدمة في التعليم بالقلم دون الطباشير؟

كان أساتذة أكسفورد وهارفارد والسوربون وبادوفا الكبار يكتبون بالطباشير.. من الغرائب أن المدرسة تمنح لأساتذتها أقلاما معدودة لا تكفي كل الموسم الدراسي.. كان ولازال يشتري الأقلام من ماله الخاص. طباشير الدولة كان وفيرا وأقلام الدولة نادرة. ميزانية شراء الأقلام أكبر بكثير من ميزانية اقتناء الطباشير. التعليم في المغرب لازال لم يبرح مرتبته الدنيا. هذا يعني أن المشكل ليس في الطباشير وإنما فيمن قرروا ذات يوم الاعتقاد أن المشكلة في الطباشير. من يدري؟ ربما ندفع اليوم ثمن لعنته أي لعنة الطباشير.. "آن لنا أخذ العبرة والكف عن نهب المال العام.." قررت أن أكتب هذه العبارة على رمال شاطئ خلال حركة المد. لن أكتبها بالطباشير ولن أكتبها بالحبر.

إلى لقاء قريب.