أحمد مدياني: المغرب والزمن السنغالي الجديد

أحمد مدياني
أحمد مدياني

ليس من السهل الحفاظ، بنفس القدر، على علاقات قوية ومتينة مع دولة شهدت مخاض تحول سياسي وتداول على السلطة، بين رئيس سابق سجن الرئيس الحالي.

في الوقت ذاته، أعتقد أنه ليس من السليم مقاربة تجديد العهد بين صديقين تجمعهما علاقات ممتدة ومستمرة لعشرة قرون، بنفس آليات التحليل وفهمٍ للثوابت التي تجعل صلة الوصل دائمة بنفس منسوب المصالح والروابط المشتركة.

بالنظر إلى تعليقات الأشقاء في السنغال من الخبراء والمحللين والمشرفين على صياغة تقارير مكاتب الدراسات، يضع هؤلاء على رأس قائمة قوة ما يجمع الرباط بدكار، الروابط الروحية والثقافية قبل الاقتصادية والسياسية، في إشارة منهم إلى ارتباط عموم الشعب السنغالي وقادته بالمملكة المغربية، عبر امتدادات ترتكز على الجانب الديني والمشترك في العادات والتقاليد.

عاملان محددان يشكلان ركيزة البنية الفوقية الجامعة لكل ما هو مغربي-سنغالي، لكن هناك عوامل أخرى يمكن أن تفرض تحولات في المستقبل، بالنظر إلى ما يمكن أن تشهده البنية التحتية من رجات، وفق حاجيات الشعب السنغالي وقيادته الجديدة، مع استحضار الثقل الخارجي الذي لن يُؤَجل مطامعه.

الرئيس الجديد للسنغال، باسيرو ديوماي فاي، رهن نجاحه بضرورة تنزيل مشاريع إصلاحية، على المديين القريب والمتوسط.

الأول؛ تخفيض تكاليف المعيشة، ومكافحة الفساد، مع ضمان مصالحة وطنية تطوي صفحات من سنوات كتبت، أحيانا، كثيرة بالدم، بالإضافة إلى ضمان أغلبية داخل الجمعية العامة، التي يحق له، دستوريا، حلها، شهر نونبر من العام الجاري، بعدما فشل الإتلاف الذي ينتمي إليه في بلوغ هذا الهدف، خلال الاقتراع الذي نظم، شهر شتنبر من العام 2022.

والثاني؛ النجاح في إعادة التفاوض على عقود النفط والغاز، وضمان بلوغ تحول السنغال إلى دولة "اقتصاد بتروكيميائي"، مع نهاية العام 2024. كما وعدت الحكومة السابقة بذلك، على لسان المتحدث باسمها، وزير التجارة والاستهلاك، عبدو كريم فوفانا، شهر مارس من نفس العام، خلال حوار له مع موقع "الجزيرة.نيت".

مراجعة للعقود وضعها الرئيس الجديد في سياق إعلانه لرفض استمرار التبعية لفرنسا، وأن الأخيرة هي التي تستفيد من خيرات بلاده، وكانت أولى الإشارات، بهذا الخصوص، تضمن برنامجه الانتخابي الرئاسي لخطة التخلي عن التعامل بالفرنك الإفريقي؛ لأنه يرى العملة الإقليمية "إرثا استعماريا فرنسيا".

دون أن نغفل إمساك الرئيس الجديد لمقاليد الحكم، في ظرفية تعيش فيها منطقة الغرب الإفريقي والساحل على وقع تحولات سياسية عنيفة، عرفت التغيير بنزول الجيوش إلى الشوارع، وشهدت هزة اقتصادية بعد قرار ثلاث دول مؤسسة لمنظمة "سيدياو" الانسحاب منها؛ وهي: مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو.

ويبقى التحدي الأكبر، على المدى المتوسط، مدى قدرته على ترجمة نيته في محاربة الفساد، من خلال إحداث منصب المدعي العام المالي الوطني، وهو الجهاز القضائي الذي يعول عليه السنغاليون مستقبلا، من أجل ضمان عدم تكرار ما يرونه نهبا لثرواتهم الوطنية.

هذه هي أهم الركائز الداخلية التي تعد امتحانا لرئيس دولة دخل السجن، شهر أبريل من العام 2023، ليغادر من أجل دخول قصر الرئاسة، شهر أبريل من العام 2024.

الرئيس جديد يحمل في جيناته السياسية تكوينا وطنيا خالصا؛ إذ أنه، وعكس السواد الأعظم من السياسيين السنغاليين، لم يدرس في أي بلد أجنبي.

خريج جامعة "الشيخ أنتا ديوب" و"المدرسة الوطنية للإدارة"، وحسب ما جادت به التقارير التي واكبت وصوله للسلطة، غير مطلع بالقدر الكافي على لعبة المصالحة والتوازنات السياسية الخارجية.

معطى جعله يُحيط به - ويُحاط - بشخصيتين، تقدَمان على أساس أنهما سوف يتحكمان في كميات ونوعية الإسمنت الذي ستشيد به أعمدة "السنغال الجديدة"؛ واحد من المعارضة وآخر من زمن الرئاسة الأسبق.

الأول، كما كان منتظرا، لأنه المُلهم، ظهر دوره سريعا للعلن. عثمان سونكو، رئيس الوزراء الحالي، ومؤسس حزب "الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة"، المعروف اختصارا بـ"باستيف".

رجل له ارتباطات قوية مع "مفتاح السنغال"، شيوخ "الطريقة المريدية" الذين ضغطوا، عام 2021، وقادوا وساطات مع الرئاسة لإخراجه من السجن، بعدما أدين بتهمة "اغتصاب سيدة داخل مركز للتدليك"، تهمة اعتبرها هو وأنصاره، الذين سالت دماؤهم في الشوارع لأجل حريته، كيدية، وهدفها تشويهه والنيل من مكانته.

خبِر الباحث في دكتوراه القانون الاقتصادي بجامعة "جان مولان ليون 3" في فرنسا، جيدا، دواليب كل ما يحيط بإرث ملفات وارتباطات العهد الرئاسي السابق، خاصة مجالات التسيير المالي وتنفيذ ميزانية الدولة والضرائب.

وسبق وكلفته خرجاته ضد الساسة في السنغال منصبه داخل الإدارة العمومية بمرسوم رئاسي، والتهمة كانت "انتهاك واجب التحفظ".

وبحكم ارتباطاته مع "الطريقة المريدية"، يعتبر سونكو واحدا من أعداء فرنسا بالسنغال وكل ما يدور في فلكها.

الثاني؛ رجل من زمن حكم والده الرئيس الأسبق للسنغال، عبد الله واد. ويرى خبراء أن قرار الرئيس السابق، ماكي سال، إجباره على الخروج من البلاد، كان عاملا من عوامل خسارة مرشحه أمادو باه في مواجهة باسيرو ديوماي فاي من الجولة الأولى. نتيجة لصالح المعارضة تُسجلها البلاد، لأول مرة، منذ استقلالها.

وظهرت بوادر تحضير كريم واد للعب دور محوري في "السنغال الجديدة"، حين أعلن الحزب الديمقراطي السنغالي، قبل 48 ساعة من يوم الاقتراع، دعم "ائتلاف ديوماي"، من خلال تويجه رسالة مباشرة لأن يكون هذا الدعم الانتخابي تحت يافطة "ائتلاف كريم 2024".

ويُقدَم كريم واد، الحامل للجنسية الفرنسية، والمدعوم سياسيا وماليا، بقوة، من سلطة القرار بقطر، على أنه "أكثر شخصية يمكن أن تساعد الرئيس الجديد على ضبط تحالفات البلد الخارجية وسياساتها تجاه دول المنطقة والقارة والعالم، خاصة منها الدول العربية والإسلامية".

تسويق يبعث مؤشرات على أنه تحضير للتطبيع مع تسليمه لمهام في الدولة، عبر التذكير بأنه راكم تجربة دولية وعلاقات جيدة وعميقة، حين كان يشغل منصب مستشار رئاسي لدى والده مكلفا بتنفيذ المشاريع الكبرى، وأحد من أنجحوا استضافة السنغال للدورة الـ11 لمؤتمر القمة الإسلامي، شهر مارس من العام 2008.

بل هناك قناعة لدى بعض الأوساط من كبار الساسة بدكار على أن دعم الحزب الديمقراطي السنغالي للرئيس الجديد طمأن، إلى حد ما، ناخبين كبار أعادوا ضبط تجاه بوصلة دعمهم بعيدا عن مرشح الرئيس السابق.

الأهم في كل ما سبق أن وضع المغرب لدى السنغال لم يتغير، بل يظهر أن أولى الإشارات القوية جاءت بدعوة الملك محمد السادس لحضور حفل تنصيب الرئيس باسيو ديوماي فاي، دعوة استثنائية لصديق قديم استثنائي، وجهت له لوحده دون باقي قادة الدول من خارج المنطقة التي تنتمي إليها دولة السنغال.

مع ذلك، لا يجب أن نغفل أنه إبان إعلان المرشحين للرئاسة في السنغال، سُوق للمغاربة على أن مرشح الرئيس السابق، أمادو با، هو من سيخرج منتصرا من داخل صناديق الاقتراع، وفتحت له قنوات الإعلام الرسمية دون غيره، من أجل الحديث عن مشروعه، خاصة ما هو مرتبط بحاضر ومستقبل العلاقات بين البلدين.

خطوة لا يمكن، طبعا، توظيفها لتقويض أسس العلاقات المغربية السنغالية، وواهم من يعتقد أنها ستؤثر، اليوم أو بعد غد، على ما هو كائن، بل حتى طرح السؤال حول مستقبل ما يجمع البلدين، بناء على ما رافق الحملة الانتخابية من تدافع ومن تم الدفع بدعمه خلاله، يبقى مجانبا للصواب، وبعيدا عما يؤثر، حقيقة، في إحداث تحول كبير يزلزل أسس الروابط بين الرباط ودكار.

وأعتقد، مرة أخرى، وبحكم التحولات المنتظرة، أنه لا يمكن، بأي حال، أن يأتي أي تحول تجاه المغرب من السنغال عبر الداخل.

بل وجب التركيز مع تأثيرات الخارج، وما سوف تحاول تنزيله القوى الخارجية داخل دولة تطمح وتخطط لأن تكون قوة طاقية في إفريقيا.

دولة سيتم العمل مستقبلا على محاولة الدفع بها نحو تجديد بنياتها الثقافية و"الروحية"، بمبرر ضرورة مواكبتها لما سيطرأ من تحولات على بنياتها الاقتصادية.

ولا مانع من الإشارة إلى أن الصراع بين أمريكا وروسيا والصين وحتى إيران، دُشن، كل بطريقته، منذ فترة، خاصة وأن موسكو أعلنت نوايها لتكون "قوة بترولية وغازية" في إفريقيا، سواء عبر الرفع من حجم صادراتها، بأسعار تنافسية، أو على شكل مساعدات، كما فعلت حين دعمت عددا من دول القارة بواردات قمح مجانية، وأيضا إيران التي تستثمر، على المدى البعيد، في استغلال نزعات الانفصال بمنطقة الصحراء والغرب ودول الساحل.

ولعل ما يجعل المغرب متقدما بخطوة، مكانته التي تتجدد أساساتها بدول المنطقة، مهما تغيرت هوية مقاليد الحكم فيها، وطرحه لمبادرات تعزيز السيادة الوطنية بإفريقيا، سياسيا واقتصاديا؛ أبرزها المبادرة الملكية الأخيرة لفتح مياه الأطلسي أمام دول الغرب الإفريقي، مع استحضار قرب تنزيل تحولات في تعاطي دول محورية مع إمكانية الاستثمار في الأقاليم الجنوبية للمملكة.

أيضا، استشعار المغرب، بشكل مبكر، لمطامع إيران في إفريقيا.

من المؤكد أن السنغال اختارات الديمقراطية نهجا للتداول على السلطة، عكس جيرانها، لكن وعود المعارضة تبقى أحلاما تواجه واقعا لا يرتفع، ولن تترجم لمشاريع بعيدا عن المحددات والعوامل الخارجية، إما بتسهيل تنزيلها أو فرملتها.

ومع بداية الطريق نحو التغيير جددت السنغال العهد مع صديق قديم، يجب أن يحذر قبلها من المطامع الجديدة.

العلاقات بين الرباط ودكار تبقى استثنائية، بل يظهر أن هناك إرادة لأن تكون بقدر أكبر من الأمس. وما يؤكد ذلك رسالة الملك محمد السادس التي بعثها اليوم الخميس لباسيرو ديوماي فاي بمناسبة العيد الوطني لبلاده.

رسالة جدد فيها العاهل المغربي للرئيس السنغالي تطلعه "للعمل معا على ترسيخ تعاون مغربي - سنغالي أكثر متانة وقوة، سواء على الصعيد الثنائي أو الإقليمي، وذلك في إطار شراكة فعالة ومفيدة لشباب بلدينا على حد سواء".

ختاما، المغرب يحافظ على صديقه القديم. حضر معه بصفته الأخ الإستثنائي لحظة تدشين عهده الجديد على السلطة. استثناء وجب الاستثمار فيه ليستمر رغم تقلبات الأزمنة ومن يضبط خطوط توجهاتها داخل السنغال، قريبا منها، وخارجها.