الشعيبية والحسين طلال.. عملتان لوجه فني واحد

الأم والإبن في سنة 1970 / ©Gabriel axel soussan
جمال بوسحابة تيل كيل عربي

تتميز موهبة الحسين طلال، التي لا يمكن إنكارها، بكونها لا تدين بشيء لهيبة الشعيبية. فهذا الفنان التشكيلي لا يزال يحرص، بغيرة عمياء، على ذاكرة والدته وتراثها. في هذه السطور، بورتريه شامل للثنائي "أم-إبن" الإستثنائيان.

ولدت الشعيبية في سنة 1929 في سهول اشتوكة، المطلة على المحيط الأطلسي. وفي مقابلاتها العديدة، حكت الشعيبية مطولا عن فرحة طفولتها الريفية، حبها للطبيعة، الفصول، والورود بشكل خاص. لكن هل عملت في تلك الحقول؟ ربما، فعلى كل حال اتجهت مبكرا إلى نسج الزرابي التقليدية، ذات الألوان المبهرة والأشكال الهندسية.

في سن 13، تغير مصير الطفلة الشعيبية؛ فقد تزوجت برجل ينحدر من قبيلة أيت باسو بنواحي ورزازات. كان الرجل غنيا وعجوزا، وانتقلت معه إلى الدار البيضاء، لتكون زوجته السابعة وتمنحه الحسين، أول أبنائه الذكور.

أرملة وعاملة.. وطفل وحيد

حملت الفنانة الشعيبية لقب الزوجة والأم مبكرا، إلى جانب لقب الأرملة أيضا، وذلك في سن لا يتجاوز 16 ربيعا. لم تقطن الشعيبية مع عائلة زوجها بعد وفاته، مخالفة التقاليد في تلك الفترة، لأسباب لم ترد قط الخوض فيها. وعملت الشعيبية كخادمة في منازل الفرنسيين بالدار البيضاء نهارا، وكانت تنسج الزرابي وتبيعها ليلا.

خلال تلك السنوات، تدرج ابنها الحسين من المدرسة القرآنية إلى الإبتدائية، وكان وحيدا وخجولا، لكن مجدا. ورغم سنه الصغير، كان واعيا بالمجهود الذي كانت تبذله والدته من أجل توفير موارد العيش والدراسة. يتذكر الحسين: "كنت ألعب بمفردي وأحيانا أتخيل شخصيات تشاركني اللعب، وكنت أرسم كثيرا". ويحكي عن الحدث الأبرز في طفولته: "يوم حضوري لعرض سيرك.. أعتبرها أحسن ذكرى؛ لقد كنت منبهرا بالعروض والشخصيات التي لا تزال ظاهرة في رسوماتي لغاية اليوم".

يعيد الحسين ذكريات عطله، التي كان يقضيها في ريف اشتوكة: "كنت أتجول طيلة الليل رفقة قريب والدتي، وعندما أتعب أنام على الشاطئ". حصل الحسين على شهادته الإعدادية في تخصص الحدادة من مدرسة La Ferme blanche - ثانوية مولاي يوسف حاليا- حيث كان مشروع تخرجه طاولة طعام (معروضة الآن في معرض الدار البيضاء). لكنه لن يكمل طويلا في هذا المجال، فقد انتقل بعدها إلى مجال تنظيم سباقات الكلاب التي كانت تنظم في "الفيلودروم" بالدار البيضاء. "كان الراتب جيدا، والتوقيت مريح، حيث كان لي الوقت الكافي من أجل الرسم"، يحكي الحسين عن تلك الفترة.

في سن 18، كان الشاب معتادا على الأجواء الفرنسية بالدار البيضاء، متعلقا بثنائي نسج معهم علاقة صداقة، حيث كانت الزوجة، أستاذة للرسم، يعترف الحسين أنه تعلم الرسم على يدها. وفي سنة 1965، حصل طلال على الجائزة الأولى للمعرض الشتوي، "الذي أقامه جاك ماجوريل" بمراكش. من بين 160 رساما، كان الحسين طلال ثالث اثنين مغاربة تم قبول مشاركتهم؛ هما حسن الكلاوي والطيب لحسن.

الشرقاوي.. فاتح أبواب الشهرة

لم يكن يعتقد الحسين طلال أن لقاءه مع الفنان التشكيلي أحمد الشرقاوي، سيغير مسار حياته. إذ نُسجت علاقة قوية بين الفنان الشاب والفنان المتمرس، قبل أن ينضاف إليهما أندري الباز. آنذاك كان الشرقاوي معروف بشبكة علاقات مهمة جدا بباريس، لكنه لم يحتفظ بها لنفسه، فقد قرر إعطاء دفعة بصديقه الجديد، طلال، داخل الطبقة الراقية الباريسية. ويقول الحسين في حقه: "أدخلني الشرقاوي لعالم باريس، وكان فخورا بعملي، لدرجة أنه كلما قدمني لناقد فني كان يقول له: لقد أصبحنا إثنين بباريس".

مع أحمد الشرقاوي سنة 1965 / DR

الشرقاوي لم يكتف بذلك، فقد واكب صديقه إلى أن نظم له أول معرض سنة 1967، بمنطقة "سان جيرمان دو بري" الراقية. هذا المعرض، ورغم أنه أول دخول رسمي للحسين، إلا أنه أبهر النقاد وقتها. فقد قال عنه جان بوري: "الحسين طلال من أحسن الفنانين المغاربة.. لوحاته ذات جمالية غريبة. لا أعلم لماذا، لكنها تذكرني بويليام بيك". من جهته أكد آنذاك، الناقد الفني المرموق "جيرارد غاسيو-طالبو" أن أعماله "تتسم بكثير من الجرأة في الضوء.. غموض وعفوية في توزيع المستويات، نوع من التعذيب، الشفقة، وأشياء لا يمكن تصور قوتها". إلى غاية منتصف السبعينيات، كان طلال يرسم ويعرض بشكل منتظم، وكان التألق والنجاح يرافقانه في كل مرة. لكن شيئا فشيئا، أصبحت أعمال هذا الشاب المتجدد تقل. ترى ماذا حدث؟

ظاهرة الشعيبية

في سنة 1961، قام الناقد الفني الفرنسي بيير غوديبير بزيارة المغرب، البلد الذي يكن له عشق خاص. وبهذه المناسبة، دعا الحسين ضيفه رفقة أحمد الشرقاوي والباز وغيرهم، لتناول وجبة الكسكس في المنزل. بعد الغذاء وتقديم الشاي، لفتت الشعيبية بفرنسيتها البسيطة، انتباه الحاضرين بأنها تريد أن تعرض عليهم شيئا. اختفت قليلا، ثم رجعت بأوراق كارطون رسمت عليها أشكالا هندسية بأصبعها. الصدمة كانت بادية على ملامح الحضور، لا سيما ابنها الحسين، الذي أكد أنه لم يكن يعرف شيئا، ويقول عنها: "لقد استعملت الصباغة التي اقتنيت من باب مراكش لصباغة المنزل، وعلب الكارطون التي كنت أضعها عندها".

أما جيلبير، فلم يخفي حماسه آنذاك ويتذكر أنه قال: "الشعيبية يمكنها أن ترسم وتتوقف بعد ثلاثة أشهر وننسى الموضوع.. أو أنها ستستمر لتصبح فنانة كبيرة. في جميع الحالات، أحذركم من توجيهها".. هكذا كانت ولادة ظاهرة الشعيبية.

الدخول من أوسع الأبواب

عرضت الشعيبية لأول مرة في باريس، في رواق سولتيس ب"لوماري"، سنة 1966.  فهرس العرض تم استهلاله من طرف "سيريس فرانكو"، الناقدة الفنية من جنوب أمريكا، والمرتبطة بالفنان الشهير "كورنيل". هذا الأخير وقع في غرام الشعيبية لشخصها وفنها. فدخلت البدوية، الخادمة والأمية، الفن من أوسع أبوابه، كما قال عنها النقاد في تلك الفترة.

أما سيريس أخذت على عاتقها الدفاع عن الشعيبية، لا سيما وأن بعض المدارس الفنية التي لا تعترف بالفن الفطري، هاجمتها وحاربت نجاح الشعيبية الذي تجاوز باريس إلى كل أقطاب العالم: نيويورك، ري ودي جانيرو، بوغوتا، جنيف، برلين، أمستردام، طوكيو.. ولم يكن نجاح الشعيبية في المعارض العالمية فحسب، فقد أصبح اسمها يجاور أهم الأسماء العالمية في المزادات العلنية، الموسوعات، المؤلفات الفنية القيمة.. وغيرها.

في هذه الأثناء، توقف ابنها الحسين طلال عن الرسم والعرض، فالإقبال والنجاح اللذان حققتهما الشعيبية، لم يتركا له المجال للإبداع، وكان مشغولا بإدارة أعمالها طوال الوقت. ومع ذلك، صمم بين سنتي 1967 و1969 أغلفة للمجلة المثيرة للجدل "لاماليف". لكنه اختفى بين سنوات 1970 و1990 كفنان تشكيلي. في المقابل، كان معروفا كجامع تحف (سيارات قديمة، تحف فنية، منازل أثرية، كتب نادرة..). بهذه الصورة الجديدة، أصبح ابنها طلال يستقبل في رواقه، كل مساء، أبرز الأسماء الفنية في المغرب، من الطبقة المثقفة وجميع المهن والمجالات، ومن دول أخرى.. لقد كان المشهد داخل بيته، أشبه بمهرجان فني يجمع كل الأقطاب.

إذا كان الحسين طلال قد شيّد شبكة من المعارف حول متحفه الصغير، الذي غص بمحبي الفن، فإن الشعيبية كانت شبه غائبة عن أروقة المغرب، عدا معرض مركز "غوته" الألماني بالدار البيضاء، فقد أوصدت كل أبواب الأروقة المغربية في وجه الشعيبية. لكن ألم تكن ظاهرتها وفنها مثيران للانبهار في العالم؟ ومن كان وراء هذا المنع؟

في تلك الفترة، كان هناك مجموعة من الفنانين التشكيليين، الذين عرفوا بمدرسة الدار البيضاء، من بينهم: بلكاهية، المليحي، شبعا، حاميدي وغيرهم. هؤلاء الفنانون كانت لهم أفكار مغايرة.. فلا مكان للفن الفطري بينهم، بل أكثر من ذلك، حاولوا محاربته. الشعيبية التي عاشت الفقر والكد والعمل، لم تكن لتستسلم. كما لم تكن لتستمر في التحليق في خارج المغر ب دون أن تضع رجليها في البلد الذي يسكنها وتسكنه.

بكل عفوية، سألت ابنها عن كلفة إنشاء رواق فني. فلم تكن الإجابة لتتأخر كثيرا، فقد افتتحا معا، فترة بعد ذلك، وبالتحديد سنة 1984، رواق "ألف با"، بزنقة عمر السلاوي. هناك، حيث الزائر يخيّـل له أنه في زيارة لأحد المتاحف الخاصة بمقتنيات القرن التاسع عشر. كان للشعيبية ما أرادت، فاللوحات والتحف وعبق الأرستقراطية التاريخية تملأ المكان، منذ ذلك الوقت وإلى اليوم.

كان للرواق دور في التعريف بالشعيبية في المغرب، حيث نالت منذ ذلك الحين الإعجاب والحب والتكريمات. ظهر أثر ذلك جليا بعد وفاتها سنة 2004، حيث أجمعت كل الأوساط الفنية والثقافية، على أن الشعيبية ظاهرة لم ولن تتكرر.

حارس القصر

عودة الحسين طلال للرسم في سنة 1990، بشكل منتظم ومتميز، أكدت أن موهبة هذا الفنان لا تدين بشيء لهيبة الشعيبية الأم. تلك الأم التي لا يزال يحافظ على ذكراها، تاريخها وتراثها. فلم تجمعهما العواطف الغريزية فحسب، بل جمعهما ارتباط روحي وفني، نلمسه من خلال لوحات، اقترحهم غيتة التريكي - المسؤولة عن قسم الفنون بمؤسسة التجاري وفا بنك- في معرض يحمل عنوان "الشعيبية والحسين طلال، عمل في المرآة".

رغم وفاة الشعيبية الأم، فإن الثنائي لا يزال حاضرا في روح الحسين طلال، الذي يكمل مسيرة والدته، ويحفظها في قبله حين يمزج ألوان لوحاته.