الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا مفككا لتاريخ الكذب

تيل كيل عربي

عزيز الراشيدي - أستاذ فلسفة

قد يبدو من الغريب أن ينشغل الفيلسوف بموضوع قد يبدو للعامة اعتياديا وعاما يحصل بشكل مستمر في حياتنا وواقعا المعاش ألا وهو موضوع الكذب، وينقض عليه متسلحا بأدواته التحليلية والفكرية باحثا في اشكاله المختلفة وانعكاساته وحضوره في السرديات والنصوص المؤسسة للخطاب. وكأننا امام موضوع بالغ الأهمية والجدية يستحق التفكيك والتنقيب، بل أكثر من ذلك يذهب دريدا إلى محاولة التأسيس لجنيالوجيا الكذب، والحال أن دريدا قد اختار البحثهذا الموضوع بوعي مستعرضا من خلاله فلسفته التفكيكية التي تميز بها كواحد من ابراز فلاسفة العصر واشدهم نقدا للفلسفة الأوربيةولفكرةالمركزية وثنائيات الضدية معنوينا مشروعه الفلسفي بمقولته الشهيرة "إذا كان التفكيك مدمر حقاً، فليدمّر ما شاء من الأبنية القديمة المشوّهة... من أجل أن نعيد البناء من جديد." لهذا فالبحث في تاريخ الكذب بحث في مجال فلسفي لا يمكن بأي حال من الأحوال الاعتراض عليه. ولعل هذه من الميزات الأساسية التي جعلت نجم دريد يعلو في تاريخ الفكر المعاصر لأنه رفض الإرتكان الى الموضوعات الكبرى والاستقراروالطمأنينة وراح يبحث فيما وراء الظل وبعيدا عن الأضواء هناك في الأماكن والهوامش المنسية حيت اللامفكر فيه وكأنه يعيد محاكمة للوغوس التي بدأت مع نيتشه. فإذا كانت الفلسفة في معناها الأكثر انتشارا محبة للحكمة وبحثا عن الحقيقة فبلوغ هذه الغاية لن يكون ممكن إلا بتعرية أضدادها من قبيل الوهم، الخيال والأسطورة ...كما حدث في محاورات سقراط مع السفسطائيين والكهف الافلاطوني إلى جانب التقابلات الحاصلة ما بين الحقيقة والدوكسا، والحقيقة والدوغما.. فنقيض الحقيقة له ألف وجه ووجه إنه مفهوما متقلبعلى رمال متحركة يصعب الإمساك به.فكيف يمكن التأريخ للكذب؟  هل هو تأريخ لمفهوم أم لظاهرة؟ أليس تاريخ الكذب هو كذب التاريخ؟وإجمالا هل يمكن كتابة تاريخ للكذب؟

إن دراسة المقاربة التي قدمها جاك دريدا في محاولته لدراسة تاريخ الكذب لا يمكن فهمها إلا في اطار  مشروع التفكيك و استراتيجيته التي يسعى دريدا من خلالها إلى تحليل و تفكيك مركزية العقل الأوربي ، وهدم المعرفة المطلقة بشكل عام عبر جنيالوجية الكتابة و إعادة بناء فهم جديد لمعاني مفهوم الكذب و سياقات تشكل هذه المعاني باختلاف الثقافات وحتى داخل نفس الثقافة .لكن و قبل أن نشق مع دريدا هذا الطريق و نتتبع خطواته في هذا البحث الجنيالوجي على النهج التفكيكي لتاريخ تشكل مفهوم الكذب  لابد أن نشير إلى أن مشروعه هذا لم يصل إلى مرحلة الاكتمال مثله مثل باقي أعماله التي تظل أعمال غير منجزة خصوصا و أن كتاب تاريخ الكذب يبدو من خلال قراءته أنه مقدمة لتاريخ الكذب لأن ما يمكن أن يخلص له القارئ لهذا العمل _الذي هو عبارة عن محاضرات جاءت متأخرة في مسار دريدا _أنه لم يقدم رؤية دقيقة أو شاملة  لما كان يريد قوله دريدا و هذا ما يدل على أنه لم يصبح مشروعا منجزا  بمعالم و مصطلحات ثابتة مع العلم ان الثبات و الإنجاز امر  يتناقض من حيث المبدأ مع ما يسعى إليه دريدا في مختلف  أعماله التي ترمي إلى الهدم و التفكيك في سبيل إعادة البناء .

إن اول ملاحظة يمكن أن نسجلها ونحن نشق عملية الهدم هذه والتفكيك بمعية دريدا هي أن هناك سؤال يطرح نفسه بقوة علينا هو هل نحن أمام محاولة لكتابة تاريخ للكذب ام امام استعراض ونبش أركيولوجي في كل ما كتب عن الكذب؟ لان اغلب ما يحتويه قد يبدو استعراض ومحاورة لما كتب عن الكذب وتاريخيه وقد نستشف هذا الامر من الاعتراف الضمني بتشابه هذه المحاضرات حول تاريخ الكذب مع ما قدمه "فريدرك نيتشه "في افول الاصنام الذي كتبه سنة 1888 ونشره سنة 1889 وخصوصا النص المعنون " بتاريخ الخطأ" الذي يسرد تاريخ الحقويبين كيف يتحول العالم الحق إلى خرافة وتصبح الحكاية الحقة خرافة. ان نيتشه في هذا النص عمل على هدم ما يطلق عليه الحكاية الحقة و الشك في وجودها أصلا، وهنا يمكن أن نقول أن دريدا يسلك منحى نيتشه في التفلسف عبر مطرقة الهدم وما يعزز هذا الكلام هو قول دريدا { لايمكن اختزال تاريخ الكذب في تاريخ خطأما ، وذلك حتى إذا طال هذا الخطأ عملية تكوين كل ما هو حق بل وحتى تاريخ الحقيقة أي فكرة العالم الحق تعتبربمثابة خطأ...}1لكن رغم كون دريدا يتبنى نهج نيتشه فهو يرفض من جهة ثانية أمكانية اختزال تاريخ الكذب في تاريخ خطأ.

بعد هذه الإشارة إلى نيتشه ينتقل بينا دريدا إلى واحد من  أهم النصوص التي توثق لماكتبفي الكذب و هو الرسالتين الكبيرتين" للقديس أوغسطين "حول الكذب و مساوئ الكذب ، ويعرج بنا على "مارتن هيدغر"  من خلال الإشارة إلى التحليلات التي قدمها لمفهوم الكينونة إذ يقول دريدا{ صحيح أن محور الكذب في حد ذاته لم يتمكن في المراحل الأخيرة من فكر هايدجر من احتلال حيز كبير ،على سبيل المثال في التحليلات التي قدمها للكينونة   Dasein   ...إلا أنه يصرح بأن الكينونة تحمل في داخلها إمكانية ظهور الخداع و الكذب } 2

غير أن دريدا في أخير كتاب تاريخ الكذب  يعارض هايدجر إذ يرفض مشروع التفاؤل الدائم الذي يرى أنه سيشكل عائق أمام مشروع تاريخ الكذب الذي يقتضي طرح أسئلة ذات طابع تفكيكي و ليس على النهج الذي يسلكه هايدجر في طرحه .وفي سياق استحضار اهم الكتابات التي تناولت الكذب يستحضر دريدا ما جاء به  جون جاك روسو الذي قدم تصنيفا شاملا لمختلف أنواع الكذب ، كالخديعة و التدليس و الافتراء ،وقدم مفهومه للكذب على أنه حين لا يلحق الأذى بالذات و لا بالأخرين لا يعتبر كذبا ،بل هو تخيلات لا يمكن اعتبارها كذبا وكذلك حتى عندما نقوم بإخفاء حقيقة ما لسنا ملزمين بالتصريح بها ففي هذه الحالة لا يجوز اعتبارنا كاذبين، وهنا  نجد دريدا لا يبدي أي تعارض مع روسو لكن حينما نتقدم في القراءة مع دريدا  سنجد أن هناك اختلافات بين الطرح الذي قدمه روسو وما يقدمه دريدا.

إن الإمساك بما يريد قوله دريدا من خلال تاريخ الكذب ليس بالأمرالهين ، وما يجعل هذه المهمة تزداد صعوبة هي الحوارات التي يفتحها في كل لحظة مع الاعمال السابقة  التي تناولت مفهوم الكذبوفي هذا الاطار  سيقودنا دريدا الى صاحبة كتاب " الحقيقة والسياسة "و كتاب " في السياسة و الكذب"  الفيلسوفة الألمانية "حنا ارندت"التي سيمتد الحوار معها طويلا عبر صفحات تاريخ الكذب فهي التي سعت إلى لفت الانتباه إلى أن تاريخ الكذب  شهد تحولات على مستوى الممارسات التي تشكل فعل الكذب ،لكنه رغم ذلك لم يصبح هذا التاريخ كاملا و نهائيا إلا في عصرنا هذا حيت يمكن الحديث عن انتصار الكذب.

وعبر هذا الاستحضار لعمل حنة أرنت يشر دريدا إلى ان عملها هذا حول الكذب في السياسة و السياسة و الحقيقة يشكلان امتداد وصدى لبحث "ألكسندر كويري" الذي عنوانه بالوظيفة السياسية للكذب.

إن محاولة دريدا لتفكيك تاريخ الكذب هاته التي انطلقت من ملاحظة في غاية الأهمية و هي ضرورة التميز بين الكذب كمفهوم والتاريخ في حد ذاته، إذ يقول دريدا " يجب التميز بين تاريخ الكذب كمفهوم، وتاريخه في حد ذاته كممارسات و أساليب و دوافع و تقنيات و طرق و نتائج " 3 وهو هنا يلفت انتباهنا عبر التساؤل إدكان من الممكن التمييز بين ثلاثة أمور مختلفة أولها التاريخ الخاص بمفهوم الكذب و ثانيها التاريخ الخاص بالوقائع و ثالتها التاريخ الذي يحكي كل الأكاذيب بصفة عامة.

_ من تاريخ الكذب إلى مفهوم الكذب:

إن المطلع على كتاب تاريخ الكذب سيدرك لامحالة أن مجهود جاك دريدا قد صب في اتجاه التركيز على الكذب كمفهوم ما داما ان الكذب كممارسة يصعب حصرها أو تحديدها،لأنها تختلف باختلاف الثقافات وتأثيرها ولعل هذا ما دفعدريد في عمله هذا ينطلق من تفكيك المفهوم الكلاسيكي السائد عن دلالة الكذب ويهدم هذه الدلالة لإعادة بناءها محاولا تجاوز الثنائيات. وفي هذا السياق يعرض لنا المفهوم الكانطي للكذب إذ يضع" كانط" الكذب ضمن عالم الاخلاق الموجود بذاته و يحث كانط على الصدق حيث يقول » ان نقيض الكذب ليس الحقيقة و الواقع ولكن الصدق أو الصحة «4وهنا سيستند دريدا على كانط لبناء مناقشاته ، فالكذب ليس هو نقيض الحقيقة إذ يمكن أن لا يقول الشخص الحقيقة و مع ذلك لا يكون كاذبا .وهنا يرتكز دريدا على مسألة مهمة عند كانط هي ضرورة التزام الصدق في القول وهو أمر واجب وقطعي يلزم الانسان القيام به اتجاه الاخرين دون مراعاة ما قد يترتب عن قول الحقيقة.إن كانط يؤكد دائما على ضرورة إلتزام الصدق لان الكذب أو إعطاء وعد دون الوفاء به قد يؤدي إلى وقف استعمال اللغة و التوجه إلى الاخرين بصفتهم الإنسانية فليس تمة لغة لا تتشكل انطلاقا من الوعد الصادق و وضع اللغة بوصفه مؤسسة على الصدق. إن هذه الإشارة الى اللغة ستشكل المدخل الأنسب لدريدا للاشتغال على الفهم الكانطي للكذب معتبرا دريد أن اللغة ذات طابع تفكيكي  وأداة مركبة متعددة المعاني و عبرها يمكن تفكيك الكذب من خلال العلاقة بين الكلمات والنصوص وكيفية تشكيل المعاني والمفاهيم من خلال هذه العلاقات..

وإذا كانت هذه النقطة قد شكلت مدخل للتعامل مع مفهوم كانط للكذب ، فان دريدا لن يقف عند هذا الحد بل سيجعل  مها كذلك نقطة لنسف و تفكيك التصور الكانطي الأخلاقي للكذب معترضا على فكرة الالتزام القطعي بقول الحقية باعتبار الحقيقة قيمة أخلاقية مطلقة  غير مشروطة ،في حين يرى دريدا الكذب مخالفة قول الحقيقة بطريقة متعمدة وشرط  إلحاق الأذى بالأخرين ،وهنا إعادة تأكيد على ضرورة حضور عنصر النية في الخداع .في حين أن كانط  يعتبر الكذب في جميع الأحوال يلحق الأذى بالأخرين وحتى في حالة  إلحاق الأذى بشخص معين فهو يضر بالإنسانية جمعاء ما داما الكذب استبعاد للحق ولايمكن بأي حال من الأحوال تبرير الكذب .غير أن المهم هنا كذلك هو فكرة  سلطة الحق التي سيقف عندها دريدا حيت سيؤكد على أن الحقيقة أو الكينونة مجرد فبركة ليس إلا ، وهذه الفبركة ناتجة عن الفشل في البحث عن المعنى وعن الربط بين الميتافزيقا و الصدق ولعل هذا الربط هو ما سيجعل من الكذب قابلا للتفكيك مثله مثل باقى البنى المعتمدة على اللوغوس و المأسسة على الثنائيات.

(1) جاك دريدا: تاريخ الكذب ترجمة وتقديم رشيد بازي الطبعة الأولى 2016 المركز الثقافي العربي ص 13

(2) نفس المرجع السابق ص 15

(3) نفس المرجع السابق ص 33

(4) نفس المرجع السابق ص 47