المادة 9.. تغول الإدارة وروائح الفساد

وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة محمد بنشعبون بين أعضاء لجنة المالية بمجلس النواب (تـ: تنويني)
الشرقي الحرش

يعيش المغرب منذ منتصف أكتوبر الماضي تاريخ الإعلان عن مشروع قانون المالية نقاشا ساخنا بشأن تحصين أموال الدولة والجماعات الترابية ضد الحجز القضائي، رغم صدور أحكام قضائية نهائية.

لم تحظ أي من مواد مشروع قانون المالية لسنة 2020 بالنقاش والجدل أكثر من المادة 9 من المشروع، إذ أن المادة 9 ليست رقما كباقي الأرقام، بل إنها تجر وراءها عقودا من المواجهة بين سلطات الإدارة التي تمتلك وسائل الدولة وبين مواطنين قد يكونون الحلقة الأضعف في مواجهتها، كما يرى آخرون أنها ليست سوى الشجرة التي تخفي غابة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة.

وإذا كانت الحكومة تعتبر أن الاستمرار في الحجز على أموال الدولة والجماعات الترابية قد وصل حدا يمكنه تهديد التوازنات المالية، بعدما بلغت قيمة المبالغ المحجوزة خلال الثلاث سنوات الأخيرة 1000 مليار سنتيم، من بينها 200 مليار سنتيم تم الحجز عليها من حصة الجماعات الترابية من الضريبة على القيمة المضافة، فإن التساؤل الذي يطرحه الخبراء والمتتبعون هو ما الذي أوصلنا إلى هذا الحد؟

 توحش الإدارة

 يحمي الدستور المغربي حق الملكية، ولا يسمح بنزعها إلا في الحالات التي تقتضي متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، مع ضرورة التقيد الصارم بالإجراءات التي ينص عليها قانون نزع الملكية، إلا أن هذه المسطرة لا يتم احترامها في كثير من الأحيان مما يكلف الإدارة مبالغ ضخمة لم تكن مضطرة لدفعها.

 في هذا الصدد، حصل "تيلكيل عربي" على عدد من الأحكام القضائية التي تهم جماعة الرباط، والتي تكشف مدى استخفاف القائمين على إدارة الشأن العام بأحكام القانون.

ويتضح أن أغلب القضايا التي كلفت جماعة العاصمة ملايين الدراهم كانت بسبب الاعتداء المادي على أملاك المواطنين دون سلوك أي مسطرة.

وعلى سبيل المثال، فقد أًصدرت المحكمة الإدارية بالرباط سنة 2016 حكما يلزم جماعة الرباط بأداء 28 مليون و800 ألف درهم لفائدة عدد من المواطنين، الذين يملكون حصص مشاعة في عقار يقع بديور الجامع تبلغ مساحته أزيد من 4 آلاف متر مربع، قبل أن يفاجأوا بقيام الجماعة بالاستحواذ عليه واقتطاع 1800 متر مربع منه قصد توسعة شارع مدغشر. وقضت المحكمة بالتعويض المذكور، بعدما تأكد لها أن الجماعة قامت بوضع اليد على العقار بدون سند قانوني.

 كما حصل "تيل كيل عربي" على حكم آخر يكشف مدى الحيف الذي تمارسه الإدارة في مواجهة المواطنين على مستوى قضايا نزع الملكية دون سند قانوني.

ويشير الحكم الصادر سنة 2012 إلى أن جماعة الرباط حسان وضعت يدها سنة 2002 على عقار  يملكه عدد من الأشخاص على "الشياع"، وقامت بتحويله إلى حديقة عمومية دون سلوك مسطرة نزع الملكية.

 ولم يتمكن المدعون من إجبار الجماعة على تعويضهم إلا في سنة 2012، حيث صدر حكم يقضي بتعويضهم بمبلغ 8 آلاف درهم للمتر مربع و50 ألف درهم في السنة عن الحرمان من الاستغلال.

ويشير الحكم إلى أن جماعة الرباط لم تكلف نفسها عناء الجواب على مقال المدعين رغم توصلها به، ومنحها الوقت الكافي للقيام بذلك.

كما أصدرت المحكمة الإدارية حكما آخر  ضد جماعة الرباط سنة 2017، وألزمتها بأداء قرابة مليارين و600 مليون سنتيم لفائدة سيدة تم الاستحواذ على عقارين لها وشقة بهما طريقا أصبح عبارة عن مدار لملتقى طرقي كما أقامت به حديقة ورصيف ونافورة.

واعتبرت المحكمة أن الجهة المدعى عليها وضعت يدها على العقار حيادا على مبدأ الشرعية، إذ أن تصرفها لم يكن مبنيا على سند قانوني، أو حق ناجم عن سلوك المسطرة القانونية لنزع الملكية من أجل المنفعة العامة.

صوت عمادة الرباط

يؤكد لحسن العمراني، نائب عمدة مدينة الرباط، في اتصال مع "تيلكيل عربي"، أن القضايا التي خسرتها الجماعة أمام القضاء ورثها المجلس عن المجالس السابقة.

ويعتبر العمراني أن قضايا نزع الملكية التي يلزم فيها القضاء الجماعات الترابية بأداء مبالغ مالية مرتفعة ترجع إلى عدة أسباب أهمها: عدم تطبيق مسطرة نزع الملكية من أجل المصلحة العامة، الشيء الذي يسقط الجماعات في الاعتداء المادي، كما أنه أحيانا لا يتم تفعيل آليات الدفاع عن حقوق الجماعة خلال مرحلة انجاز الخبرة لتقييم حجم الضرر؛ إذ من المفروض أن تضع الجماعة بين يدي الخبير بعض المعطيات من أجل استحضارها أثناء انجاز خبرته، خاصة أن تقييمه يشمل الضرر الناتج عن الاعتداء المادي وكذا الحرمان من الاستغلال، في حين أن بعض الأراضي لم يكن أصلا بالإمكان استغلالها.

ويضيف العمراني أنه خلال التداول أمام المحاكم قد تكون هناك عناصر أخرى مرتبطة يمكن استغلالها لفائدة الجماعة، لكن في بعض الأحيان لا يتم الإدلاء بها.

ويرى نائب عمدة الرباط أن الإدارة مطالبة باحترام المساطر القانونية لتفادي الحكم ضدها بمبالغ مرتفعة يتم استخلاصها من جيوب المواطنين. وتابع "إن إقامة مشاريع تبلغ كفلتها ملايين الدراهم يستدعي إعمال المسطرة القانونية، ووضع تصور قبلي عما سينجز".  لكن هل المادة 9 حلا؟

يجيب العمراني "بكل صراحة، لا يمكننا معالجة الاختلالات باختلالات أخرى"، مضيفا أنه "لا بد من احترام الأحكام القضائية".

 قضايا تفوح منها رائحة الفساد

من بين أكثر الأحكام غرابة في قضايا الاعتداء المادي على أملاك المواطنين، نجد حكما ابتدائيا صدر ضد جماعة الرباط سنة 2013 بأداء تعويض مالي يتجاوز 58 ميلون درهم لفائدة "لحسن أ"، الذي زعم أنه اشترى أرضا من مواطن فرنسي سنة 1994، وقام بتسجيلها في باريس، وأن الجماعة قامت بالاستحواذ عليها وأقامت فوقها طرقا، معتبرا ذلك اعتداء ماديا.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن محامية الجماعة طلبت خبرة إضافية، بحسب مصادر مطلعة من مجلس الرباط، مما فتح الباب أمام "لحسن أ" للمطالبة بتعويض يتجاوز 81 مليون درهم.

وبحسب مصدر مسؤول من مجلس الرباط، فإن الجماعة اكتشفت عن طريق الصدفة أن هذه الملف عبارة عن عملية نصب كبيرة كادت تتعرض لها الجماعة والهيأة القضائية.

المصدر كشف أن جماعة الرباط كلفت محاميا من خارج المدينة لمتابعة الملف والمطالبة بإخراجه من المداولة من أجل إجراء خبرة مضادة، وهو ما سمحت به المحكمة خلال مرحلة الاستئناف، حيث تبين أن القطعة الأرضية التي يزعم صاحبها امتلاكها غير موجودة، وأن الطرق تم تشييدها قبل إبرام عقد البيع بسنوات، مما يشير إلى احتمال وجود تواطؤ بين المتدخلين في الملف من أجل الإيقاع بالجماعة.

ويعتبر محمد الغلوسي، المحامي ورئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، في اتصال مع "تيلكيل عربي"، أن الأحكام القضائية التي تصدر ضد الإدارة تشير أحيانا إلى وجود تواطؤ بين مسؤولي الإدارة وبعض المواطنين، إذ بدلا من سلوك مسطرة نزع الملكية يتم اللجوء مباشرة للاستحواذ على العقارات من أجل رفع مبلغ التعويضات.

ويشير الغلوسي إلى أن حجم الفساد يبرز أكثر حينما يتعلق بالأمر بقضايا لها علاقة بالصفقات العمومية، حيث يتم التآمر بين بعض  الموظفين ومسؤولي الإدارة والحاصلين على الصفقات.

وتتمثل طبيعة هذا التواطؤ، بحسب الغلوسي في تفويت آجال الطعن والإنذارات من خلال تعمد بعض مسؤولي الإدارة عدم الجواب على ما يرد عليها من طلبات ورسائل تترتب عنها التزامات على عاتق هذه الإدارة أو من خلال غض الطرف عن بعض الملاحظات المسجلة بمحاضر الأوراش ضد المرفق العمومي بمناسبة تنفيذ الصفقة العمومية، وهي الوثائق التي يستند إليها القضاء لترتيب مسؤولية الإدارة، ومن تم الحكم عليها بتعويضات ومبالغ مرتفعة تثقل كاهل المرفق العمومي.

ويرى الغلوسي أن مجال الخبرة القضائية يعرف بدوره فسادا كبيرا، إذ أن بعض الخبراء يعمدون إلى تقدير تعويضات خيالية لفائدة المستفيدين والانحياز إلى جانبهم ضدا على قسم المهنة وقيم العدل والإنصاف والتزام الحياد.

من جهته، دافع محمد معروف، الخبير في الشؤون العقارية عن عمل الخبراء. واعتبر محمد معروف في اتصال مع " تيلكيل عربي" أن الخبراء يبنون تقييمهم على معايير موضوعية من بينها موقع العقار ومدى قابليته للاستغلال، كما يطلعون على الأحكام الصادرة في قضايا مشابهة.

وأشار معروف أن الخبير لا يمكن أن ينجز خبرته إلا باستدعاء الطرفين، إلا أنه أحيانا لا يقدم مسؤولو الإدارة معطيات للخبير من أجل استحضارها، خلال تقييمه.

واعتبر الغلوسي أنه على الحكومة محاربة الفساد داخل الإدارة بدل منع المواطنين من الحصول على تعويضات حكم بها القضاء لصالحهم، مشيرا إلى أنه حان الوقت لإثارة المسؤولية الشخصية لكل من قام باعتداء مادي على أملاك المواطنين خارج الشرعية.

المسؤولية الشخصية للموظفين أشارت إليها المادة 8 مكرر من مشروع قانون المالية الحالي، والتي تنص على أنه "لايمكن للآمر بالصرف أو من يقوم مقامه، في إطار الاعتمادات المفتوحة لإنجاز مشاريع استثمارية على العقارات أو الحقوق العينية بالاعتداء المادي، ودون استيفاء المسطرة القانونية لنزع الملكية لأجل المنفعة العامة".

المادة 9 إلى أين؟

 بعدما أثارت جدلا واسعا، وووجهت بمعارضة شديدة من المحامين والقضاة أدخلت الفرق البرلمانية بمجلس النواب تعديلات جزئية على المادة 9، لكنها حافظت على تحصين أموال الدولة ضد الحجز.

ونصت المادة المعدلة على أنه "يتعين على الدائنين الحاملين لأحكام قضائية تنفيذية نهائية ضد الدولة أو الجماعات الترابية ومجموعاتها ألا يطالبوا بالأداء إلا أمام مصالح الآمر بالصرف للإدارات العمومية أو الجماعات الترابية المعنية".

وبحسب الصيغة المعدلة، فإن المحاسب العمومي يمكنه تنفيذ الأحكام القضائية في مواجهة الدولة أو الجماعات الترابية ومجموعاتها تلقائيا في حالة تقاعس الآمر بالصرف عن الأداء داخل أجل أقصاه 90 ابتداء من تاريخ الإعذار بالتنفيذ في حدود الاعتمادات المالية المفتوحة من الميزانية لهذا الغرض.

 كما نصت المادة المعدلة على أنه "إذا تبين أن الاعتمادات المتوفرة غير كافية لتنفيذ الأحكام القضائية، فإن الآمر بالصرف يقوم وجوبا بتوفير الاعتمادات اللازمة لأداء المبلغ المتبقي في ميزانية السنوات اللاحقة، وذلك في أجل أقصاه 4 سنوات دون أن تخضع أموال الدولة والجماعات الترابية للحجز".

 وبحسب مصدر من الأغلبية، فإن المادة 9 لن يكون مصيرها مثل المادة 8 مكرر التي أسقطها مجلس المستشارين سنة 2017، والتي كانت بدورها تحصن أموال الدولة من الحجز. وأوضح المصدر، الذي رفض الكشف عن هويته، أن المادة 9 قد تدخل عليها تعديلات في مجلس المستشارين، لكن دون أن يتم إسقاطها.

ومن شأن الإبقاء على هذه المادة أن يثير حفيظة مؤسسة دستورية أخرى. في هذا الصدد، سبق لمؤسسة وسيط المملكة أن عبرت عن موقف رافض للمادة 8 مكرر، واعتبرتها تشكل إخلالا بمبدأ المساواة الذي هو عماد كل تنظيم قضائي، وكل بناء لدولة الحق والمؤسسات.