تفكيك خطاب التطرف.. "البدعة" أكثر مصطلح شرعي يتعرض للابتذال(10)

المتطرفون والإرهابيون هم قمة الابتداع في الإسلام على غرار "المبتدعة الأوائل" الخوارج
موسى متروف

في الدفتر التاسع من دفاتر "تفكيك خطاب التطرف"، ضمن سلسلة "الإسلام والسياق المعاصر"، للرابطة المحمدية للعلماء، يخوض الدكتور إدريس غازي "في استشكال مفهوم البدعة".

يؤكد المؤلف، منذ البداية، أنه "ليس في المصطلحات الشرعية المتداولة مصطلح لحق به من الابتذال في الاستعمال، ما لحق مصطلح البدعة"، ويعيد ذلك، "كما هو مشاهد عند جل المشتغلين بشأن التدين"، على حد تعبيره، إلى أحد أمرين أو كليهما:

-"الأمر الأول راجع إلى سوء التأويل، وبيانه أنك تجد بعض المتفقهة يعمد إلى دلالة هذا المصطلح الشرعي، فيتصرف فيها تصرفا لايستجيب لضوابط التأويل الصحيح، بحيث يتأدى به الأمر إلى حمل اللفظ على معنى يناقض دلالته الأصلية، أو يتصرف فيه بفرض القيود وافتعال الاحترازات، مما يفضي إلى تجميد المصطلح تجميدا يتعطل معه الفكر، وينحرف به السلوك".

-"الأمر الثاني وله صلة بسوء التنزيل، وهو ما نستشفه لدى بعض المنتسبين إلى العلم، من إطلاق العنان لألسنتهم، من خلال الجرأة على تبديع أفعال الأمة المحمدية المشرفة، واعتبارها مناطات ومصاديق للبدعة أو الابتداع".

واعتبر المؤلف أن ذلك يدل على أن مصطلح البدعة "لمّا يتمكن معناه ويضح عند هؤلاء غاية التمكن وتمام الاتضاح، وهذا ما يفسر تزلزلهم عند تبين مناطاته وتحقيق موارده، فكان من نتائج ذلك أن لبّسوا على عامة المتدينين، فحرموهم فوائد الأعمال المشروعة وثمارها، بدعوى كونها من مصاديق البدعة".

من التطرف إلى العنف

ويعتبر غازي أن الابتداع يتقوم بكونه طريقا في التدين يناقض ما انبنت عليه الشرعة من التوسط والاعتدال، ويؤكد أن المبتدع شديد المبالغة إلى حد الإيغال، أو بالغ التقصير إلى حد الإهمال، مشددا على أن الإيغال مآله الوقوع في الملل، مثلما أن الإهمال مفض إلى الفتور، وهما سببان كافيان في انقطاع المبتدع وتوقفه وحرمانه من كمالات التدين القويم.

ولا يعتبر أن الابتداع طريقا فقط نحو الجنوح إلى التطرف، بل هو مفض إلى "استحلال العنف"، فيقول إن الابتداع ينبني على مسالك في التواصل مبناها على التنافر والتناكر، وقوامها نبذ مبدإ الحق في الاختلاف، وهذا مباين لمناهج الشرعة في التواصل، والمؤسسة على قيم التعارف والتعاون والاعتراف بحق الغير في الرأي المخالف، وخاصة إذا كان الاختلاف سبب إغناء وإثمار، وكان مآله تحصيل الألفة والمحبة والوحدة. ليؤكد أن المبتدع لا يقيم لهذه المعاني والقيم شأنا في علاقته بغيره، فتجده سالكا طريق التعصب المقيت، داعيا إلى كل ما من شأنه إشاعة الفرقة والتدابر وتمزيق وحدة الجماعة، وترسيخ القطيعة بين أفرادها،كل ذلك بكل ما أوتي من أسباب الحمل والإكراه والترهيب، بل والتعنيف والتنكيل، وهذا ما يشير إليه قول أبي قلابة: "ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف".

واستدل المؤلف، في هذا السياق، بسلوك الخوارج الذين وصفهم بـ"المبتدعة الأوائل في تاريخ الإسلام"، ليخلص، على هذا المستوى، إلى أن الابتداع في التداول الشرعي يقتضي الذم والتشنيع؛ لاختصاصه بأوصاف تناقض الشرع تمام المناقضة، وذلك:

- لأنه هادم لمقاصد الشريعة ومعانيها الأخلاقية الحية؛ إذ لا يقيم للأخلاق وزنا.

- ولأنه يضاد القيم الاشتغالية للشرع؛ إذ يخاصم مبدأ الاقتداء والتنمذج بالسنن.

تقسيم البدعة

وحول تقسيم البدعة إلى محمودة ومذمومة، أورد المؤلف أن بعض العلماء حملوا على الحكم ببدعية جملة من الأعمال المشروعة، والمندرجة تحت الأصول الشرعية العامة، بدعوى عدم وجود أعيانها في عمل وممارسة السلف، كالاحتفال بعيد المولد النبوي، فعدوا ذلك من قبيل الابتداع الحسن، وأوضح أن وصف تلك المحدثات المشروعة بصفة الابتداع  يورث في النفس إدبارا وإحجاما عن الاجتهاد في طلبها وتحصيل فوائدها وثمارها؛ لأن وصفها بالحسن لا يشفع في قبولها والإقبال عليها، كما لا يشفع في درء المعنى المذموم للابتداع عنها...

وبالنسبة إلى الحديث النبوي "فإن كل محدثة بدعة"، يقول الدكتور إدريس غازي إنه يقتضي بعمومــه أن سائر المحدثات كيفما كان نوعهــا هـي بدعــة وضلالــة، والحــال أن قولــه (ص) فــي الحديــث الذي أخرجه مسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية: "ما ليس فيــه"، له معنيان مبنيان علـى دلالته المنطوقة:

- معنى اقتضائي: وهو أن الإحداث أمر ممكن الوجود.

- ومعنى مفهومي مخالف (مفهوم المخالفة)، وهو أن من أحدث في  أمر الشرع ما هو منه أو فيه فهو مقبول . ليصير المعنى بمقتضى اجتماع هاتين الدلالتين هو: الإحداث ممكن الوجود، فإذا تحقق فمنه ما هو مشروع فيلتحق بالسنة، ومنه ما ليس بمشروع فيندرج في البدعة...