تفكيك خطاب التطرف.. "الحاكمية" مفهوم أوجد حالة من الانفصام بين المسلم ودينه وبينه ومجتمعه(5)

موسى متروف

في الدفتر الرابع من دفاتر تفكيك خطاب التطرف، ضمن سلسلة الإسلام والسياق المعاصر، للرابطة المحمدية للعلماء، يتصدى الدكتور محمد الناصري لتفكيك مفهوم الحاكمية، شديد الرواج لدى المتشددين.

تحت عنوان "مفهوم الحاكمية.. من أجل تجاوز إشكالات المفهوم والتوظيف الإيديولوجي"، يأتي هذا الدفتر الذي ينطلق مؤلفه من تأكيده على أنه لايدعي أنه سيحل كل الإشكالات المرتبطة بمهوم "الحاكمية"، ومن تم إنهاء كل نزاع أو جدل صاحب المفهوم قديما وحديثا، فالأمر على قدر كبير من الخطورة بالنظر لتأثيرات المفهوم العملية الواقعية. ويشدد على أن البحث محاولة لوضع المفهوم في مكانه الصحيح من المنظومة المعرفية الإسلامية، وتخليص المفهوم من معانيه التحريضية التي استخدمت لتبرير كل الأعمال الإرهابية وأعمال العنف من طرف من تبنوه بدلالاته تلك داخل الأقطار الإسلامية وخارجها.

الحاكمية الإلهية والحاكمية الوضعية

ويوضح الباحث أن الحاكمة الإلهية تعبير شاع في الأدبيات الإسلامية عموما، وأدبيات الصحوة خصوصا، ليشار به إلى التزام شريعة الله بدلالة ما يرد يف بعض الآيات: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"...

ويضيف المؤلف أن الحاكمية الإلهية تقابل بالحاكمية الوضعية التي ينتجها الإنسان دون التزام بالشرع الإلهي، وبما أن الحاكمية الوضعية تخالف الحاكمية الإلهية، فإن المنطق يتداعى لتترادف الحاكمية الوضعية مع الكفر والشرك، فتتكرس دائرة التناقض ضمن ثنائية حادة، فإما الحاكمية الإلهية وإما الكفر، وعلى هذا الأساس تعد جميع المجتمعات ذات الأنظمة الوضعية مجتمعات كافرة، ولا توسط بين الأمرين.

وبهذا "المضمر الفكري" تتجه بعض الحركات الإسلامية إلى تمييز نفسها عن الآخرين في مجتمعاتنا بوصفها –أي هذه الحركات- مجسدة في ذاتها وتكوينها إطارا لحاكمية الله، أي إن في داخلها الحركي يكمن "الخلاص"، فهي دون غيرها "مدينة الله" والآخرون "مدن الشيطان"، ويتداع المنطق فيسبغ هذا الإطار الحركي على نفسه "مشروعية التصرف" باسم الله وحاكميته، فيرى في سبيل غاياته تبريرا لكل الوسائل، مستحلا الأنفس والدماء والأموال...

ويؤكد الناصري أن من أسهم في اضطراب هذا المفهوم ثلاثة أطراف وهم: الطرف الأول: أبو الأعلى المودودي وسيد قطب، والطرف الثاني: الإسلاميون الذين شرحوا فكر الرجلين، والطرف الثالث: الإسلاميون الذين استنبطوا المفاهيم الشائعة عن الحكم والدولة وقيم السلطة والشرعية انطلاقا من آيات القرآن والأحاديث النبوية.

الاجتهاد ساحة الخلاف والاختلاف

وبعد تأصيل للمفهوم، يشدد الكاتب على أن المفكرين الإسلاميين المعاصرين اختلفوا حول تحديد مفهوم الحاكمية وتأصيله، لما يواجه هذا المفهوم من أزمة وما يكتنفه من غموض على مستوى النشأة والتنظير، فضلا عن النتائج العلمية والعملية التي رتبت على أساسه، ولهذا اختلفت أساليب التعامل معه بين ناظر له باعتباره مفهوما مصدره الشريعة، وبين معتبر له مفهوما فكريا مصدره الإنتاج العقلي البشري, وعلى هذا الأساس كانت التنظيرات الفكرية لهذا المفهوم متباينة انطلاقا من الظروف الفكرية والملابسات الواقعية التي عاشها كل مفكر، وبقي هذا المفهوم، بدلالاته ومعانيه التي استقرت، أساسا للتحرك ومرجعا للفكر ومستندا لكثير من التفسيرات المختلفة.

ويعتبر أن مرد كل ذلك الخلاف والاختلاف أنه لم يدعم بسنة نبوية محكمة ملزمة أو سنة راشدية واضحة، وإنما كانت ساحة الأمر ولا تزال محلا للاجتهاد، الذي يجري عليه الخطأ والصواب والذي يأتي في معظم الأحيان ضمن السياق التاريخي ونوازل الناس وتنازع الفرق والأحزاب وتصارعها ومحاولة توفير الغطاء الشرعي لذلك الاجتهاد من الكتاب والسنة...

ويقول إنه بسبب جهل عديد من قادة الحركات الدينية أصول الخطاب القرآني حولوا عالمية الإسلام إلى مجتمعات الانغلاق غير القابلة للتعايش مع غيرها، ففشلوا في التعايش. كما أن ادعاء منطق الحاكمية لله قد شوه مفاهيم الدين وأوجد حالة من الانفصام بين المسلم ودينه من جهة، حين لا يتقبل المسلم حالات التعصب والمغالاة والفرقة وإسقاط حقوق الغير، كما أوجد حالة من الانفصام بين المسلم ومجتمعه من جهة أخرى حين يقبل بهذه المقولات الزائفة على علاتها ظنا منه أنها من صلب دينه.

والمطلوب، راهنا، حسب المؤلف، أن يتنبه المجتمع بكل مؤسساته العلمية، وبجميع مصادر التوجيه فيه، إلى وجوب العودة إلى المواقع التي يتشكل فيها الوعي، وتصنع فيها الممانعة من أجل تفعيل رسالتها.

ولايتأتي ذلك، في نظر الناصري، إلا باعتماد برامج التعليم بكل تخصصاته، وداخل جميع مؤسساته، لمواد العقيدة الإسلامية، والثقافة الإسلامية، والحضارة الإسلامية، والخروج بها عن أن تظل مجرد اهتمام تخصصي محدود، مادام خطاب العنف مفتوحا على كل شرائح المجتمع.

كما يؤكد على دور وسائل الإعلام في التعريف بالثقافة الإسلامية الرصينة المعتدلة، فضلا عن دور الأسرة في غرس معاني التدين الصحيح ودور المسجد وما يلقى فيه من دروس العلم والخطب والمواعظ...