تفكيك خطاب التطرف.. أثر فوضى اللامذهبية على الواقع المعاصر(9)

عبادي يعتبر أن اللامذهبية أنتجت فوضى في التعاطي مع نصوص الشرع
موسى متروف

في الدفتر الثامن من "دفاتر تفكيك خطاب التطرف"، ضمن سلسلة "الإسلام والسياق المعاصر"، للرابطة المحمدية للعلماء، يعكف الأمين العام لهذه الأخيرة الدكتور أحمد عبادي على موضوع "أهمية المذهبية الفقهية وأثر فوضى اللامذهبية على واقعنا المعاصر"، ليضمن كتابه بيانا لأهمية المذهبية الفقهية في تطبيقات الواقع المعيش، ويبرز  أخطار وانعكاسات اللامذهبية في السياق المعاصر.

جمع فتاوى الصحابة والتابعين

يذكر عبادي أن المتفحص لتاريخ المذهبية الفقهية يجد أنها حمت النظر إلى الشريعة واستنباط الأحكام من الاستباحة. وأوضح أنه بعد عصر كبار الصحابة واتساع رقعة الإسلام، ودخول غير العرب إلى الإسلام، وانتشار من بقي من الصحاب في الأمصار، حصل اختلاف اتسعت دائرته مر الزمن. فأخذ الأمر يتطور إلى ما يُخاف من عواقبه، فاضطر الناس إلى الاجتماع على فهم موحّد، وأصول مشتركة، تجمع بشكل سلس، ما تحصّل من فتاوى الصحابة وطرقهم في الاجتهاد.

وأكد المؤلف أن الصحابة هم أولى الناس بالاتباع والتقليد في الدين، لكن انشغالهم بالكسب وحماية الثغور، حال دون تفرغهم لضبط اختلافهم، وبيان مناهجهم، وتقعيد أصولهم، فكان ذلك من نصيب من خلفهم من أتباع التابعين، حيث جمعوا فتاوى الصحابة والتابعين، وسبروا  وأصّلوا الفتاوى وربطوها بعللها وحججها، وجمعوا الناس على قواعد معرّفة ومحددة المعالم...

وذكر أمين عام الرابطة المحمدية للعلماء أن المذاهب الفقهية نشأت للحيثيات والضرورات نفسها التي نشأت لها سائر العلوم الشرعية، وتزامنت مع عهد التدوين الشامل للعلوم، لتتأسس، في هذا السياق، المذاهب تباعا: مذهب أبي حنيفة ثم مالك ثم الشافعي ثم أحمد. وهو سياق التدوين والتنظيم والتبلور المكتمل لمؤسسات المجتمع الإسلامي، التي ستبقى سمة ثابتة له، وأسلوبا متعارفا عليه، لا يُعرف للدين وجود خارج رسومه، إلا لدى من يبتغي عالما فوضويا أو عبثيا، يقول عبادي.

والراصد لتاريخ التشريع الإسلامي، يقول المؤلف، يلحظ أن اللامذهبية قد توزع أصحابها طوائف ومذاهب، أنتجت فوضى في التعاطي مع نصوص الشرع، تبعتها فوضى أكبر في مستوى التنزيل والإفتاء...

مدارس لاستنطاق الوحي

يعتبر المؤلف أن مذاهب الفقه الإسلامي عبارة عن مدارس لاستنطاق الوحي الخاتم؛ كمال الدين وتمام النعمة، والاستمداد منه لما ينفع الناس  في العاجل والآجل، وهي مدارس ارتفعت صروحها بفعل الكدح المستدام، للأئمة الأعلام، بغية بلوغ المرام، ورفع الملام، فتجوهرت في هذه البنى الوضيئة، جملة من الأصول والقواعد، والآليات، والمصطلحات، والمفاتيح، والمهارات، والخبرات، مؤطرة بكليات ومقاصد، مرفودة بمجامع ومساند، وآخذة بعين الاعتبار وقائع ومشاهد، مجسرة بين الأحكام وسياقات تنزيلها، وبين علل الأحكام ومآلاتها، مما خلف هذا المعمار المنهاجي الوظيفي المنير، الذي رام جهلا، أصحاب الفكر المبير، هدمه في ذهول عن كونه الدرج الموصل إلى مرقاة الاتصال، والمعيار المخلص من الإصر والأغلال، ومن الزيغ والاختلال، هداية للأمة، وإشاعة للرحمة.

وشدد الكاتب على أن من يرفعون اليوم عقائرهم بدعاوى الأخذ المباشر من السلف، وعصمة الأمة من التلف، وحمايتها من الخرف، ليقفزون، من حيث يعلمون أو لا يعلمون في ظلمة، ويدلفون بأنفسهم وبالأمة إلى الضلال والغمة، مستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير، إذ لا سبيل للوقوف على أصل الميراث المحمدي، إلا بجعل منهاج التماسه بما به بُدي، في تتبع لحلقات سلسلة النور، حلقة، حلقة، على مر العصور، حتى بلوغ بدر البدور عليه أزكى الصلاة والسلام، بصفاء ووفاء، من غير تبديل ولا تحويل، في صدق للعهد، وتطلع للوعد، على حد تعبيره.

وشدد على أن علماءنا الأماجد، أخذا من مشكاة قوله تعالى "ولا تقْفُ ما ليس لك به علم"، حرّموا الحومان حول هذا الحمى، لغير من لم يكن من أُهيل الفضل، القادرين على الحمل والتحمل، والفهم والتمثل، حتى إذا استجمعوا تلك الشروط، حُلُّوا عند ذاك بما يقتضى من شارات الأهلية  للتليغ، وسلكوا  في سلك من شهد لهم اللفيف المعتمد، للتوقيع عن خاتم الأنبياء والمرسلين، ومن سار على سبيله الناهج، الذي ليله كنهاره، لا يزيغ عنه إلا هالك...