شهادات سجناء سخروا سنوات سجنهم للمعرفة ومحاربة الأمية والتطرف

أحمد مدياني

كيف يمكن أن تحول النقمة إلى نعمة؟ وأن تجعل من سلب الحرية فرصة للانعتاق، وإن خلف قضبان الزنزانة. الجواب عند فئة من ساكنة سجون المملكة، اختارت أن تكرس سنوات سجنها لطلب العلم وتقاسمه، وجعلت من الزنزانات أقساماً ومدرجات سمت بالمنتسبين إليها، إلى مصاف الأساتذة والباحثين، بل انخرطت طواعية في محاربة الأمية والتطرف، ما انتقل بالمئات من مصاف الجاهلين بالحروف وخطها، إلى حاملين لشهادات عليا، وينشدون كل سنة دون كلل هل من مزيد؟

"تيل كيل عربي" التقى مجموعة منهم داخل السجن المحلي لمدينة بني ملال، على هامش الجامعة الربيعية التي تنظمها المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج.

جنود المعرفة ونبذ التطرف

داخل رحاب مكتبة السجن المحلي لمدينة بني ملال، تنتصب صور قامات فكرية وأدبية مغربية شامخة تمنح الإلهام لمن يتردد من نزلاء ونزيلات السجن على هذا الفضاء، صور عبد الله العروي ومحمد زفزاف ومحمد شكري وخناتة بنونة وغيرهم، في حضرتهم، جالس "تيل كيل عربي" "مصطفى" (اسم مستعار)، حكم عليه بـ10 سنوات سجناً في المرحلة الإبتدائية ثم بـ12 في الاستئناف.

يتحدث بنبرة ثقة وحماسة، مع ابتسامة لا تفارق محياه. مؤمن بما اختاره من مسار داخل السجن، بعدما تخلص من دهشة وصدمة أولى سنواته.  يقول "مصطفى": "كانت السنوات الأولى صعبة، خاصة مع طول مدة التحقيق في الملف الذي توبعت بسببه، لكن بعد صدور قرار المحكمة الاستئنافي، اخترت التركيز على إعادة بناء الذات، وانخرطت في الدراسة داخل السجن، ما مكنني من الحصول على شهادة الباكلوريا في الآداب العصرية".

لم يوقف "مصطفى" مساره الدراسي ولو لسنة واحدة. فبعد حصوله على الباكالوريا بميزة حسن، التحق بجامعة مولاي إسماعيل في مكناس، بحكم قضائه لسنوات سجنه الأولى بالسجن المحلي (تولال 1)، ليحصل منها على الإجازة في القانون العربي الخاص. مسار جامعي سوف يستمر بعد انتقاله للسجن المركزي بمدينة القنطيرة، حيث سيحصل هذه المرة على الإجازة في القانون الخاص فرنسي، بعدم حصل على ديبلوم تسيير المخازن من التكوين المهني، وانتقل أيضاً إلى تعلم اللغة الإنجليزية.

ومنذ العام 2014، اختار مصطفى أن يكون ضمن كتيبة النزلاء الذين يحاربون الأمية داخل أسوار السجن.

هنا يتحدث "مصطفى" بفخر عن التجربة، ويعتز بأن النزلاء من مختلف الأعمار ينادونه أستاذ. وعن تفاصيل التجربة وما حققته، يحكي النزيل المتوفق: "منذ العام 2014، قررت رفقة عدد من النزلاء الانخراط في برنامج محو الأمية، نحن خمسة طلبة جامعيين نمسك اليوم بـ5 أقسام، كل قسم داخل حي من أحياء السجن المركزي للقنيطرة ويضم 30 مستفيداً، والتحدي هو أن تنتهي السنة و140 نزيلاً على الأقل استطاعوا تعلم الكتابة والقراءة، ليتمكنوا من الالتحاق بالمدرسة الابتدائية".

يقول مصطفى "عدد من النزلاء الذين درستهم سيجتازون هذا العام امتحان نيل الشهادة الابتدائية، لقد انقلبت حياتهم بشكل كامل، ومنهم من أصبح يتقن حتى الكتابة والقراءة باللغة الفرنسية، في الوقت الذي لم يكن في البداية يعرف كتابة حتى اسمه بالعربية".

وليست وحدها الدراسة غير النظامية التي ينشط فيها "مصطفى" متطوعاً، بل استطاع رفقة نزلاء آخرين، إنشاء ناد ثقافي داخل السجن، ينظم من حين إلى آخر أنشطة ثقافية كبرى، يحضرها كتاب ومفكرون وأدباء وشعراء، يختبرون ما أنتجوه أمام فئة تناضل لأجل المعرفة من رحم الاستثناء.

رسالة "مصطفى" التعليمة داخل أسوار السجن، لا تتوقف عند محاربة الأمية، بل تجاوزت ذلك إلى حدود الانخراط في محاربة خطاب الكراهية والتطرف، ويقول عن هذه التجربة: "انخرطنا منذ العام 2016 في برنامج التثقيف بالنظير. نحن 20 نزيلا، استفدنا من تكوين نظمته الرابطة المحمدية للعلماء، تكوين تملكنا من خلاله أسس الخطاب الديني المعتدل والسمح الذي يتميز به المغرب، وكيف يمكن أن نتواصل من خلاله مع باقي النزلاء".

وعن الحصيلة، يضيف المتحدث ذاته: "في السجن المركزي للقنطيرة استطعنا التواصل مع قرابة 1800 نزيل، بسطنا لهم المفاهيم الخاصة بالدين، أساساً الجهاد وكيفية مواجهة خطاب التكفير، ثم انتقلنا إلى السجن المحلي الذي يضم تقريباً 2400 نزيل، الذين استفادوا بدورهم من اللقاءات. عندما يحاور نزيل في السجن نزيلا آخر، تكون مهمة التوعية أسهل وأكثر عمقاً وتأثيراً".

28 سنة في خدمة المعرفة

منذ شهره الأول داخل السجن المحلي بآسفي، وضع أسس ما ستكون عليه سنوات سجنه اللاحقة. يقترب من الستين، لكنه مستمر في مساعدة من يطلب العلم والمعرفة. حين جالسه "تيل كيل عربي"، قال صراحة إنه لا يخجل من ذكر اسمه وصفته و"الجريمة" التي قادته إلى السجن، لكن الواجب المهني يفرض حجب كل هذا، لذلك اختار له "تيل كيل عربي" اسم "المُخلص" بالنظر إلى الأجيال التي ساهم في نشأتها العلمية والمعرفية.

"أودعت بعد قرار المحكمة بالسجن المحلي آسفي عام 1991، ومنذ الشهر الأول وحتى الموسم الدراسي 1994/1995 درست الفوج الأول للسجناء الذين اختاروا الهندسة المعمارية، كان هناك نقص في هذا الجانب، وقمت بسده تطوعاً".

وبعد توقيع شراكة بين مندوبية السجون والتكوين المهني، تم سد الخصاص الذي كانت تعاني منه المؤسسات السجنية، بما فيه توفير أطر لتدريس الهندسة، ورغم ذلك، قرر "المُخلص" مواصلة التجربة، ليمسك بأقسام محاربة الأمية، فضلاً عن إعطاء الدروس في اللغة الفرنسية والرياضيات للنزلاء الذين يتابعون دراستهم في الأقسام الابتدائية.

يقول "الملخص"، إن من بدؤوا رحلة محو الأمية معه منذ التسعينيات، غيروا حياتهم، منهم من حصل على ديبلومات في التكوين المهني، ومنهم من نال شهادة الإجازة وواصل تعليمه العالي بعد مغادرة السجن.

 ويلخص قيدوم نزلاء السجون المتفوقين، وصفة النجاح من داخل أسوار السجن بالقول: "يجب أن تختار أولاً التصالح مع ذاتك، وقبول المصير الذي وضعت فيه أو اخترته بنفسك، وأن تهيئ نفسك جيداً للإفراج سواء بعد انقضاء مدة محكوميتك أو باستمتاعك بالعفو. إعادة الإدماج اختيار يجب القتال لأجله وانتزاعه، وليس أعطية أو صدقة يجب أن تنتظرها من المؤسسات والمجتمع".

ويرى "صاحبنا" أن المجدين الراغبين في محو الأمية، يلزمهم فقط من شهر إلى شهرين للتفوق على الجهل بالكتابة والقراءة، ومنهم من يحقق ذلك في أسبوع أو أسبوعين إذا لم يعتمد على ساعات الدراسة داخل القسم فقط، ويضيف: "منذ العام 2016 أدرس في الموسم الواحد 90 نزيلاً في إطار برنامج محو الأمية، هذا الموسوم تقلص العدد إلى 45 نزيلا بحكم انخراط نزلاء آخرين تطوعا في البرنامج، كما أدرس 38 نزيلاً من بينهم 24 نزيلاً حدثاً في الأقسام الابتدائية، وعندي اليقين أن رحلة هؤلاء مع المعرفة لن تتوقف سواء داخل السجن أو خارجه".

التحديات الثلاثة

حالة فريدة، انتقل صاحبها من شخص لا يفقه حتى كتابة اسمه إلى كاتب لسيرته الذاتية بعنوان "التحديات الثلاثة".

بدأ (ه ض) المحكوم بـ30 سنة سجناً، مساره الدراسي بين جدران أقسام محاربة الأمية دخل السجن بدون مستوى دراسي، وسيغادره قريباً حاملاً معه شهادة الإجازة في القانون الخاص عربي.

كيف استطاع (ه ض) النجاح في هذه الملحمة الدراسية؟

يجيب في حديثه لـ"تيل كيل عربي" بالقول: "في اليوم الأول الذي ولجت فيه السجن، التقيت رجلاً غير مسار حياتي، وجعله على ما هو عليه اليوم، سي عمر الله يذكرو بالخير، كان موظف في المندوبية مكلفا بالشؤون الاجتماعية داخل السجن".

ويسترسل النزيل "سي عمر منحني وصيتين، الأولى هي الاقلاع عن أخذ الأقراص المهدئة التي تساعدني على النوم، والثانية جعل سنوات سجنني كاملة لأجل الدراسة".

مسار (ه ض) دعمته عائلته بدورها، ويشدد على أنه لو لا تواصله الدائم معهم لما استطاع تحقيق ما وصل إليه. وعن تفاصيل مساره الدراسي يروي النزيل، أنه دشن رحلة محو الأمية بالسجن المحلي إنزكان، قبل أن يلتحق بالسجن المحلي بالقنيطرة لمتابعة دراسته الإبتدائية، ثم انتقل إلى السجن المحلي عين السبع بالدار البيضاء "عكاشة" لمتابعة دراسته الإعدادية والثانوية، حيث حصل على شهادة الباكالوريا شعبة الآداب العصرية.

ثم عاد إلى السجن المحلي بالقنيطرة وتسجل في كلية العلوم القانونية والاقتصادية بسلا، واستطاع في ظرف أربع سنوات الحصول على شهادة الإجازة منها.

يقول (ه ض)، إنه لم يواجه أي صعوبات في مساره الدراسي بحكم المساعدة التي كان يحصل عليها من طرف أطر مندوبية السجون وباقي النزلاء وأسرته، لكن منعطفان في حياته الشخصية كذا يعصفان بكل شيء، الأول حين فقد والده عام 2003، والثاني حين وصله نبأ فقدان والدته وهو يهيئ لاجتياز امتحانات الإجازة، هنا يصرح (ه ض) بحسرة : "بعد وفاة الوالدة رميت المراجع والكتب، قلت علاش غادي نقرا أصلا، لم أستطع تحمل الصدمة، بدأت تتسلل إلي قناعة أن كل شيء ضاع، لكن بدعم من باقي الزملاء واصلت".

قبل ثلاثة أشهر، قرر (ه ض) كتابة سيرته الذاتية، اختار لها عنوان "التحديات الثلاثة"، وفق في وضع عصارتها بين دفتي كتاب وهي قبل تنقيحها وتصحيحها تتألف من 120 صفحة. سيرة يعود فيها النزيل المتفرد بتجربته الدراسية إلى أشهره الأولى داخل السجن، وكيف كانت سنوات دراسته في محو الأمية وتفاصيل محطات التحصيل العلمي، كما سيضيف حسب حديثه ل"تيل كيل عربي"، ما يتذكره من حياته السابقة منذ كان في سن الـسابعة إلى  يوم قرر الخروج من المنزل وكيف كانت علاقة والده بوالدته والثواني المعدودات التي قادته إلى السجن.

لكن ما هي "التحديات الثلاثة" التي سوف يتحدث عنها، (ه ض) في سيرته الذاتية، الأول يشرح، هو العقوبة وكل تفاصيلها وكيف استطاع التغلب على تبعاتها، والثاني هو محو الأمية وتدشين مساره الدراسي إلى أن بلغ شهادة الإجازة، والتحدي الأخير هو الرياضة. كيف؟

يجيب (ه ض): "عندما دخلت السجن كنت أزن 133 كيلوغرماً، التقيت بعد ذلك ملاكماً مغربيا مشهوراً، كان بطلا للمغرب في وقت مضى، وقادته ظروفه إلى السجن بعدما حكم عليه بـ10 سنوات سجناً، قررنا معا، خوض تحد مدته 22 شهراً، يحافظ فيه هو على بنيته الجسمانية، وأفقد فيه أنا بعض الكيلوغرامات، لكن بحكم العزيمة والانضباط لبرنامجه فقدت 53 كيلوغراماً خلال تلك المدة".