فلسطين والتكلفة العالية

تيل كيل عربي

كمال القصير - مفكر مغربي

سوف تعتمد أكثر قضايانا الكبرى في المنطقة على درجة قابليتنا لتحمّل التكلفة العالية، وتقبّل نتائجها على أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية.

ولا يكاد يوجد تحوّل كبير في التاريخ يخرج عن مبدأ التكلفة العالية. وإذا كنا في حياتنا الخاصة نستطيع تقدير درجة التكلفة التي بإمكاننا أن نتحمّلها، إلا أننا في القضايا العامة والمصيرية مضطرون إلى الانتقال إلى الدرجة الأعلى من التحمّل.

إن أكثر رسالة تكتبها الأوضاع الحالية في فلسطين هي تعليم مبدأ التكلفة العالية في الصراع؛ حيث يتسرّب هذا المعنى إلى وعي مجتمعات المنطقة بالتدريج. فكلّما سالت الدّماء واشتد العنف، زاد الاعتياد على مبدأ التكاليف.

إن المنطقة العربية غير معتادة على خوض أي صراعات عالية التكلفة، وتتجنب كل أشكال الصدام. كما أن التكاليف الناتجة عن الحرب ما زالت تدفع الكثيرين إلى التساؤل عن جدوى المغامرة.

وسوف تبقى الشعوب في المنطقة تتساءل، باستمرار، عن سرّ ضعف وتراخي مبادرات الدول العربية والإسلامية إلى تحمّل مسؤولياتها السياسية والتاريخية والدينية تجاه قضية فلسطين، دون أن تلقى جوابا يفسّر الأمر، بعيدا عن الرغبات النفسية والتحليلات البسيطة.

فإليكم معنى مبدأ تحمّل التكلفة العالية، ولماذا نتردّد في تبنّيه؟

يخضع مبدأ تحمّل التكلفة إلى ثلاثة مفاهيم: "الحاضنة"، "ضعف الحاضنة"، "القبضة الحديدية".

والكُلفة المرتفعة لها علاقة بطبيعة القيادة، وهذا يعني وجود عدة حالات: أولا أن يكون القائد قادرا على إقناع مجموعته أو الشعب إذا كان حاكما، على تحمّل الكلفة العالية؛ حيث يصبر الناس على تحمّلها؛ لكونهم متشبثين بقيادتهم، ففي هذه الحالة، يبادر القائد إلى القيام بمغامرات كبيرة.

ولذلك نجد في المثال البسيط أن حزب العدالة والتنمية المغربي في بداياته، حين كان الناس متشبثتين به، قد رفع أسعار البترول، مقتنعا أن الناس سوف يتحمّلون نتائج ذلك القرار، ويعودون إلى التصويت عليه، مرة أخرى.

ولذلك، خرج قادتهم إلى الشارع يشرحون للناس طبيعة تلك الخطوة التي كانت مرهقة للمجتمع، وذلك ما كان. فرغم ارتفاع التكلفة، عاد الناس إلى التصويت، مرة أخرى، على حزب العدالة والتنمية، لولاية ثانية في الحكومة.

الحاضنة الشعبية

أما حزب الله في لبنان، فرغم معرفته بارتفاع الكلفة، وبسبب امتلاكه الحاضنة الشعبية، فهو على علم بقدرتها على تحمل الكلفة المرتفعة في أي مغامرة يقرّر خوضها. ذلك أن حاضنته متشبثة به، ولن تطالبه بالرحيل.

وينطبق هذا الوضع على "حماس" في قطاع غزة، فإن الناس يتحمّلون الكلفة المرتفعة جدا، التي تنتج عن إيمانهم بالحركة وتمسّكهم بها، واحتضانهم للمقاومة، فكرا وممارسة.

أما الحالة الثانية؛ فهي عندما تكون القيادة تمتلك شرعية نسبية ناتجة عن التصويت بالأغلبية البسيطة؛ مثل الحالة التركية، التي يصعب عليها القيام بمغامرات كبيرة، أو تحمّل الكلفة العالية. فالرئيس أردوغان، مثلا، لا يملك اليقين التام بتمسّك النصف الثاني من الأتراك به، من أولئك الذين لم يمنحوه أصواتهم، وغير مقتنعين ببرامج حزبه.

فإذا ارتفعت الكلفة بسبب مواقف معينة، بدرجة زائدة، فإن الأتراك قد يغيرون موقفهم. والتفكير في هذه الحالة في رفع وتيرة الصدام مع الغرب، مثلا، لم يكن مُتحمّلا بالنسبة للجميع، وقد جعل أردوغان يعيد حساباته، بهذا الخصوص.

وأقصى ما استطاع الأتراك القيام به تجاه القضية الفلسطينية، في السنوات الأخيرة، بقي محدودا، للأسباب التي ذكرنا.

طبيعة القضية

أمّا في الموضوع السوري؛ فإن تركيا تحمّلت درجة عالية من الكلفة، بسبب اختلاف طبيعة القضية. فهي، أولا، أزمة حدودية تقع في صلب الأمن القومي التركي، بشكل مباشر، وثانيا، لأنه ليست لها علاقة بإسرائيل؛ حيث الصدام سوف يكون مع الغرب بأكمله.

وبالمقابل، فإن أتاتورك قام بتغييرات جذرية بالغة التكلفة، مسّت الهوية والمجتمع والسياسة، وتقبّلها الأتراك، بسبب طبيعة قيادته التي كانت تعرف درجة عالية من القبول والاحتضان والتمسّك والقبضة الحديدية على المجتمع.

أمّا الإيرانيون، بسبب امتلاكهم لزمام المشهد السياسي الداخلي، الذي لا تؤثر فيه رغبات الناس واختياراتهم السياسية المتقلّبة، وقبضتهم الحديدية، فإنهم أكثر استعدادا لتحمّل التكلفة العالية في أي موضوع في الشرق الأوسط. لكنهم رغم ذلك لا يندفعون، بشدة، نحو اتخاذ قرارات غير محسوبة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالصدام مع الغرب.

أما إذا تعلّق الأمر بالصدام مع المنطقة العربية، فإنهم يرفعون التكلفة إلى أقصى حدّ، دون أدنى مشكل، كما هو الحال في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.

المغامرات الكبيرة

وهناك حالة ثانية، تكون فيها المجموعة أو الشعب غير متمسّكين بالقائد، لكن القائد نفسه غير متمسّك بالبقاء أو بالاستمرار، فهو يخوض المغامرات الكبيرة. وأن يصبر الناس على التكلفة أو يطالبوه بالرحيل، لا يمثل لديه أدنى مشكلة؛ مثل بعض القادة في أمريكا اللاتينية الذين اتخذوا خطوات لم تُعجب الشعوب، فقاموا بإزاحتهم.

وهناك حالة ثالثة للقائد الذي يمتلك قبضة حديدية على المجتمع أو المجموعة، فالقائد هنا يبادر إلى رفع التكلفة، ومن رفض من الناس الأمر، فسوف يتم التنكيل به، دون رحمة؛ مثل حالة صدام حسين في العراق؛ حيث قُتل أو مات الآلاف من الأطفال، ودُمّرت البلد، وقُمعت كل الأصوات عن الاحتجاج أو الرفض. فمهما ارتفعت التكلفة هنا، فإن القائد لا يبالي إلا بقناعاته وقراراته.

أمّا جمال عبد الناصر، فكانت لديه الحاضنة المتمسّكة به، بالإضافة إلى القبضة الحديدية التي كان يمتلكها. وعندما قرّر خوض الحرب ضد إسرائيل، فإنه في النهاية، تحمّل نتائج التكلفة، بشكل شخصي، ولم ترتفع التكلفة على المجتمع إلى درجة كبيرة، فسرعان ما أعاد الرئيس السادات الأمور إلى الوضع الطبيعي الهادئ.

مقاصد الشريعة

إن شرط الإسلام التكليف، أمّا نحن فنُسمّى مكلّفين، لكن مشكلتنا مع الأمور التي تتطلّب درجة من التكلفة مستمرة في واقعنا اليومي.

فلماذا تتراخى في وعينا فرائض أساسية؛ مثل الزكاة والنصيحة والأمر بالمعروف والإنفاق والجهاد، ويقلّ انتشار أخرى؛ مثل الوقف؟

إنها مشكلة التكلفة التي تنتج عنها، وتكون مزعجة لأكثرنا. إن الأشخاص الأكثر تحمّلا للتكلفة العالية والتزاما بها، وأكثرهم بحثا عنها، هم الباقون.

ومنذ عقود مضت، تخلّت الدول العربية عن مبدأ تحمّل التكلفة العالية، أو المخاطرة في سبيل أي قضية أو مشكلة سياسية كبيرة. لكن المجموعات المقاتلة التي ظهرت في المنطقة، نابت عنها في هذا المسار.

وهي مجموعات تأسّست على مبدأ المخاطرة في الصدام مع أعدائها، دون اهتمام كبير باستمرارها في الوجود مستقبلا. إن تحمّل التكاليف العالية، أو التضحية بالقوة القليلة التي جمعتها، في سنوات طويلة، بمشقة كبيرة، لا يمثل مشكلة لها، وإن أدى الأمر إلى استنزافها وعودتها من جديد إلى نقطة البداية.

وفي سلوك المجموعات المقاتلة التي ما إن اختفت إحداها حتى ظهرت أخرى، تتراجع معايير المصلحة والمفسدة والمقاصد إلى الوراء، لكونها تُعيق مبدأ المخاطرة والتكلفة. إن المقاصد في حالتهم هي تعطيل المقاصد.

ولو نظروا إلى إعمال المقاصد، لتوقّفوا عن فعل أغلب ما يقومون به في العالم؛ فهي بالنسبة إليهم إعاقة كبيرة عن الحركة. إن آخر طلقة رصاص هي ما تحدّد مستقبلهم لا مقاصد الشريعة.

أمّا خطورة المقاصد؛ ففي كونها قد تنفتح وتتيح الحركة بدرجة يصعب السيطرة عليها أحيانا، وبالقدر نفسه الذي قد تُغلِق فيه الحركة بدرجة يصعب حسابها، أيضا.

ولذلك، لن نجد مجموعة مقاتلة في التاريخ تحسِب للمقاصد حسابا في حركتها، لإدراكها للمشكلة التي يولّدها النظر في المآلات والعواقب من إحجام وتوقّف، وهم في الغالب لن ينظروا إلى اختلاف المختلفين في التقديرات بين الإقدام والإحجام.

أمّا الذين يتساءلون، باستغراب، عن سرّ إصرار تلك المجموعات على التعامل مع النصوص القرآنية والنبوية، مباشرة، دون أدوات أخرى، فها أنا ذا قد ذكرتُه لك، لتفهمه على الوجه الذي ينبغي.

مواضيع ذات صلة