"ونادي أنا" ذروة الملحمة الغيوانية..صرخة تلبست نصا وإيقاعا

تيل كيل عربي

 

نزار الفراوي

ينفتح السهل الممتد قبل المنعرج الذي يراوغ الأعالي بحفيف ثعبان. شمس على عرشها تراقب الكائنات، قطعان أغنام بربرية تسير على هدى. تلال تستجم بضوء حنون يسلمها قريبا لغروب يحجب نباتها وصخرها فتصبح تنويعا لونيا على السواد البري. ترسم القمم منحنيات في السماء بينما تتخلق الكتل الشفقية الحمراء في عتبة المساء. ارتخاء وجودي يسم لحظة التعاقب الأزلية بين النهار والليل. حينها، قطعة غنائية مستبدة تجري في الدم قبل أن تعلو في جهاز سيارة الرحلة العزلاء. "ونادي انا"..هي عندي ذروة الملاحم الغيوانية بثقل نصها كما بوحشية إيقاعها المتوثب.
كطنين نحلة، يطلع التقسيم الساحر لعلال، وقد انتخب سيدا للبدايات، مهندسا لخطوط الطول والعرض في العرض الغيواني. ثم تصعد تلك الصرخة الشاهقة الحاسمة من العربي باطما "من المحال آ قلبي باش تنساه...من المحال آ قلبي وانت تهواه....ياك آ قلبي جيت غرييييب...". تنحدر هذه الكلمة في الوتر الصوتي للعربي بنكهة نشيج تطيبه اللثغة المتفردة، ذلك العيب النطقي الذي غدا سمة فنية محببة عند المبدع با عروب.. ".....ياك آقلبي من بلاد بعيدة...".
يواصل العربي رص شكاويه واستعادة خساراته في مونولوغ العجز والانكشاف..."ياك آ قلبي هجرت الأوطان.....ياك آ قلبي وبلادي العزيزة....والريييييح والسحاب مشات....والغيم ظلم عليا...والأحباب كاع قفات....بقيت فريد والعمدة عليا...من المحال...". وعلى غير وعد، كما بدأ بعبارة الأفق المسدود للنسيان، ينتهي المقطع. وبالنهج الغيواني الخاص، وعبقرية الفوضى، يأتي للسمع نبأ موال ينمو في ذيل الشطر الآفل. "أوووووووو...".. هو عمر السيد وقد باشر ميمه الهامسة العابرة للقارات. زم شفتيه في موال باطني هامس اعتاد الابداع فيه حتى أصبح علامته المسجلة. انكفاء صوتي وحفر باطني في دفقات قبل أن يخرج المارد عبد الرحمان باكو، من موقعه على يمين الأربعة، مطلقا نداءه بأعين مغمضة تحدق في الظلام، ليحس أكثر شرارة الكلمة وحدة العبارة وحرقة العبور ومخاض الانتقال العسير.
"يــــــا البصـــــــار الشافيـــــة يـــــا لقلـــــــوب العـــارفــــة...يـــــــا الجبـــــال الواقـــفـــــة يــــا لريــــــــاح العــــاصفــــة...هـــــذا جــــيــــــل جــــديـــــد مــــا فيــــــه عْبْــــدْ ولا سِيـــدْ...روحـــــي قـــالـــت حالــفــة مــــا تــقــطــــع المــــوالفــــة".
ضربات ثقيلة على الهجهوج بخلفيتها الكناوية الطافحة والمحررة. تلاحقه باقي الآلات. ورغم الخلفية المؤثثة ببندير عمر وطبلة العربي، فإن الحوار المهيمن الصانع للبنية الهارمونية للقطعة يكون قد اندلع على طرفي المنصة في تصعيد حواري أثير بين باكو وعلال.....لأن فلول الشيطان تسكن في الوتر.
يطل عمر السيد، حكيم التجربة وحارسها، على باكو وقد بدأ مبكرا جذبته الحاملة لرياح موغادور وعبق أمسياتها الطقوسية والأرواح الساكنة في ليل ساحلها. يد تمسك في القلب طلبا لتوازن مختل وأخرى تصنع من ارتعاش الكف رقصة قبيلة إفريقية يتساند فيها الاحتفالي والجنائزي.
مدارج التصعيد لم تستنفذ بعد. بعد حين، يتسارع وتر البانجو، تشتعل فيه كهرباء الرجل الملتحي الصموت الذي بالكاد يفرج عن بسمة حيية حين يطل عليه وجه باطما، محرضا ومناجيا...ومريدا لعلال، الذي وصفه في كتابه بأنه "جوق في عازف".
يصبح الإنصات جسديا حسيا...الذبذبات تختنق في المسامات، تندلق عرقا باردا في الذوات العطشانة والجريحة.
ثم تهب المرثية الطللية الجماعية "وأنـــــــا يـــا الحيــط أبكـــــي وأنـــــــــــــــــادي أنــــــــــــــا..وأنــــــــا فيــــــن مْوَالِيـــــــكْ وأنـــــا اللـــــي كانــــو فيــــك..وأنـــــــا نبــــــــدا لمسيـــــرة وانـــــا مـــــــن شـــور القبلـة...وأنـــــــا ولالـــــة خيـــــــــرة وانـــــا وتـــفـــــرح بيـــــــا..وأنـَــــــا ِزيــــــــدْ الگِريــــــنْ وانـــــا و مرحبـــــــا بـــيــــــك... وأنـــــــا ِزيــــــــدْ الگِريــــــنْ وانـــــا نـْــفـْـــــــرّْشْ الحنبــــل...وأنـــــــا واحـْكِــي يَا الگِريــنْ وانـــــا واش جــــــرى لـــيـــك..." غوص في المأساة ينفرج بأمل الإيمان بالله والانسان: "مـــــــــا نخمم ف ضيق الحال رحمـــــة ربـــــي مــــا وســــع..الشــــــدة تهــــــزم لـَـــــرْدَالْ أمــــــا الــرجــال مــــا تقطــــع..."..
مرحلة متقدمة من جنون الايقاع، باكو يعود بوتر هستيري. الذروة في الأفق.. النظرة حافز ولغز تواطؤ.. يتبادلها علال وباكو، من هامشيهما على المنصة. أذن قطاف الارواح وتمرغها في ماء الخلاص والتطهر: "خيــــــــي مـــــــات البــــارح واليـــــوم جــــــات خـــبــــاره..خيــــــــي مـــــــات مضيـــوم ناســـــــي اهـــــل ووكــــــــاره..لا لا خيــي مازلـــت معـــايـــا ولا أنا مصـْدّْقْ مـَـازلـت حـْـدَايَا..گـُلْتْ للخيي اضْرْبْ الحَـيــَّــــة گلت للخيي خيي رَاسْ الحَية..."
يلمع العرق في نحر العربي..يهتز شعره الفاحم الكث.. يكمم قميصه الفضفاض عند مرفقه كي يحرر ساعده النحيف في ملاحقة إيقاع هارب لم ينبت في تعاليم كتاب فني أو معهد موسيقي. حين سألت عمر السيد يوما عن سر الملحمة، كنه عنفوانها واستمرارها عابرة للأزمنة والأذواق، فاجأني عدم تردده. قال إنها "الفوضى"، كان يقصد فوضى المجاذيب الأربعة الذين تلاقحت مرجعياتهم وأنشودات أمهاتهم من مراتع الصحراء وسوس والشاوية قبل أن تصب في الميتروبول الحاضن المتعدد بالأصل والتنشئة: الدار البيضاء.
اجتازت السيارة منعرجات وادي بهت. مع "ونادي أنا" لم تعد الطريق مسافة ولا زمنا، بل وصلة انزياح وانفصال. سفر في السفر. هذه القطعة الخالدة رفيقة الرحلة العزلاء وبلسم الذات حين تواجه ماهيتها المأزومة وسؤالها الجريح.