نافذة ثقافية مع هادي معزوز.. كانط: عندما تتجسد الفلسفة فكرا في الواقع 2/2

هادي معزوز

يشكل المشروع النقدي الذي بناه كانط أهم ما أنتج في الفلسفة الحديثة، صحيح أن للرجل إسهامات أخرى في الأخلاق والسياسة والميتافيزيقا والرياضيات، إلا أننا سنتوقف عند مسألة العقل وحدود المعرفة. يؤكد بادئ ذي بدء أننا لا نعرف من الأشياء سوى الظاهر منها، أما الشيء في ذاته فإنه من المستحيل معرفته، كأن أقول مثلا إنني أرى مكتبا فوقه مجموعة من الكتب والدفاتر، هذا الحكم حصل لي بواسطة الحواس، وهو للإشارة حكم أو معرفة تكتفي فقط بظاهر الأشياء لا داخلها الجواني، لكن عندما يتجاوز العقل الأشياء الظاهرة فإنه يسقط في ارتباك وارتجاج كبيرين يصيبانه، والحال أن هناك ثلاثة مواضيع تحدثنا عنها في الحلقة الماضية قلنا أن العقل يفكر فيها لكنه لا يمكن أن ينتج حولها معرفة. كيف سيتعامل كانط مع هذه المعضلة؟

            سينطلق فيلسوفنا من سؤال يبدو غير مألوف ليس لدى عامة الناس فقط، وإنما لدى أهل الاختصاص في الفلسفة أيضا، يتساءل كانط قائلا: كيف ووفق أية شروط ممكنة تحدث المعرفة؟ لا شك أن هذا السؤال يحيلنا إلى سؤال آخر: ماذا يمكنني أن أعرف؟ الحال أن الوقوف عند هذا الأمر من شأنه أن يضعنا أمام احتمالات عديدة أولها أن المعرفة إمكانات بيد أنها تمتاز بالمحدودية. من المعلوم أن قلة قليلة من المفكرين اهتموا بسؤال مدى إمكانية تحقق المعرفة الشاملة، صحيح أن الرجل أتى في خضم النقاش الطويل العريض بين من يرجع المعرفة لما هو عقلي، وبين من يربطها بما هو تجريبي، إلا أنه نأى بنفسه لحظة النقد عن هذا النقاش، وإن بقي داخله على مستوى المبدأ لا الطريقة.

            إمكانية حدوث المعرفة تتطلب شروطا قبلية وأخرى بعدية، في المقابل فإن طرح السؤال عن المعرفة ليس سوى تفكير في إمكانية حدوث التفكير، أو لنقل إنه تفكير في التفكير نفسه، لذا فالسؤال ماذا يمكنني أن أعرف؟ هو سؤال محفوف بنزع طابع اللامحدودية عن فعل التفكير، أي وضع حدود للعقل ليس يمكن له تجاوزها مهما تفنن في التفكير والتحصيل والإبداع. بيد أن كانط سيسير إلى أبعد من ذلك حينما سيبحث عن السبل الممكنة لتحقيق الكونية في علوم قائمة بذاتها وهي الرياضيات والفيزياء والمنطق، ثم بعد ذلك الانتقال إلى الميتافيزيقا ومحاولة توجيهها في إطار العلوم سابقة الذكر.

كيف تتحقق المعرفة؟ كل معرفة هي في الأصل خطاب من خلاله ترتبط الموضوعات والأحكام فيما بينها، هكذا فالأحكام ستعدو بمثابة موضوعات تربط الذات بصفاتها. علما أنها ـ الأحكام ـ تنقسم إلى أحكام خاصة على غرار قضية: سقراط إنسان. وأخرى كونية من قبيل: كل إنسان فان. الحكم الأول خاص لأنه يرتبط بفرد وحيد ألا وهو سقراط، بينما الثاني اعتبر كونيا لأنه لا يخصص وإنما يطبق قاعدته على كل الناس بغض النظر عمن هم.

اعتبر كانط بداية أن علوما بعينها في الأصل كونية وذلك من خلال أحكامها العامة التي تسري في كل مكان ومكان، الحديث هنا عن الرياضيات والفيزياء والميتافيزيقا، إلا أنه سيعيد النظر في هذا الأمر بناء على ما قدمه دافيد هيوم. هناك قاعدة كونية ترى أن كل حدث محكوم سلفا بسبب ما، سيتلقف هيوم هذا الأمر معتبرا أنه إذا سلمنا سلفا بصحته، فهذا يعني أنه حكم متعال عما تقدمه لنا الحواس، أي أنه لا يمكن التسليم كون أن لكل حدث سبب بواسطة الحواس. يقر هيوم خطأ هذا الأمر ذلك أن الحكم سالف الذكر لا يعدو مجرد عادة دأبنا على ترديدها ثم عممناها بعدئذ على سائر الوقائع والموضوعات. في هذا السياق سيعيد كانط النظر في معطيات المدرسة العقلية، كما سيحاول في نفس الآن إنقاذ العلوم السالفة من الريب الذي وضعه فيها هيوم.

يميز كانط في هذا الصدد بين ثلاثة أنواع من القضايا أو الأحكام، وهما الأحكام التحليلية والأحكام التركيبية القبلية فالأحكام التركيبية البعدية، الأحكام التحليلية هي التي يتضمن الموضوع فيها محموله، كأن نقول مثلا بأن للمثلث ثلاث زوايا، الحال أن عبارة ثلاث زوايا متضمنة سلفا في المثلث. الأحكام التركيبية هي الأحكام التي لا يتضمن موضوعها محمولها وإنما تضاف المحمولات إلى الموضوع، كأن نقول على سبيل المثال: هذا الكرسي أزرق. اللون الأزرق لا ينحصر على الكراسي فقط، كما أنه ليس كل الكراسي لونها ازرقا. على العموم يمكن القول هنا اننا امام حكم يؤلف بين مقولات العقل وحدوس التجربة الحسية. وأخيرا فإن الأحكام التركيبية البعدية هي التي تكون متعالية تماما عن التجربة الحسية، كأن نقول مثلا بأن كل حدث مشروط بسبب ما.

يضع لنا كانط هذه المبادئ كي يرسم لنا حدودا معقولة للعقل، أو لنقل كي يمنح للعقل فضاءه القادر على إنتاج معرفة سديدة، والحق أنه عندما سار على هذا المنوال، وجد أن الرياضيات والفيزياء قادرين على تكوين معرفة مرجوة، بينما الميتافيزيقا تعجز عن الانضمام إلى ركبهما، فما العمل إذن؟ سينتهي كتاب العقل الخالص بخلاصة مفادها أن الميتافيزيقا تعجز فعلا عن تقديم معرفة قوية، خاصة وأن مواضيعها خارج إطار الحساسية الذي يحصل عن طريق الحواس، وخارج إطار الفهم الذي ينظم معطيات الحواس ضمن مقولتي الزمان والمكان. لذا لا يمكن أن نعرف هل الله موجود أم لا، كما لا يمكن التيقن من كيفية بداية العالم، وليس يمكننا أيضا معرفة حقيقة ولا طبيعة النفس. فما العمل؟ ينتهي الكتاب الضخم بخلاصة مفادها أن للعقل حدودا وحدوده التجربة الحسية، ينتهي وأسئلة العقل الخالص الثلاثة لازالت معلقة بين السماء والأرض.