عدسة الرقابة على السينما المغربية.. ضبابية إشكالية حرية التعبير عبر الفن

تيل كيل عربي

اكرام اقدار

يعتبر الحق في الرأي والتعبير من الحقوق التي تحظى باهتمام شديد في القانون الدولي لحقوق الإنسان الذي يعتبر المغرب طرفا فاعلا في مسار بلورته، من خلال المساهمة في إعداد بعض الاتفاقيات والبروتوكولات وكذا من خلال التوقيع والمصادقة أو الانضمام إلى جل الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والبروتوكولات الملحقة بها. كما أن الدستور المغربي بدوره يؤكد في الفصل 25 أن " حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها"، وأن " حرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الإبداع الأدبي والفني والبحث العلمي والتقني مضمونة".

وعليه، فبالرغم من هوامش الحرية التي قد تكون متاحة في السياق المغربي، ومن تأكيد الحكومة والجهات المعنية بأن المغرب يشهد تقدما واسعا فيما يتصل بممارسة حرية التعبير، إلا أن التقارير الوطنية والدولية تواصل تصنيف المغرب في قائمة الدول التي تمارس التضييق على حرية الرأي والتعبير في مجال الصحافة وكذا الإبداع، بل ويحتل المغرب في بعض المؤشرات مراتب متدنية، وهو ما ترد عليه الوزارة الوصية، بين الفينة والأخرى، بـ"أنه مجحف وغير نزيه، بل لا معنى له".

إن الحديث عن حرية الإبداع في السياق المغربي، لا زال يضع حرية التعبير في الإبداع السينمائي في مرمى الجدل في كثير من الحالات حيث منع عرض أفلام سينمائية وطنية بسبب تناولها لمواضيع يعتبرها السياق الاجتماعي، أو السياسي أو الثقافي المغربي طابو. وهذا يعيد إلى الأذهان جدل منع فيلم "الزين لي فيك" للمخرج نبيل عيوش، عام 2015 الذي منع قبل عرضه في المغرب بعد تسرب مقاطع منه، الشيء الذي ولد نقاشا صاخبا وأعاد الصراع إلى الساحة السياسية والإعلامية بشأن حدود الإبداع السينمائي في المغرب.

بررت الحكومة المغربية آنذاك منع الفيلم الذي يعالج "واقع الدعارة بالمغرب" بأنه "يتضمن إساءة أخلاقية جسيمة للقيم وللمرأة المغربية ومس صريح بصورة المغرب" حسب بيان لوزارة الاتصال.

وتحت ذريعة الدفاع عن "الفن النظيف" طالب حزب العدالة والتنمية قبل أشهر بمنع عرض فيلم "أزرق القفطان" لمخرجته مريم التوزاني، الشيء الذي أثار جدلا واسعا بالأوساط الفنية والثقافية الرافضة لتقييد حرية الفن والإبداع.

وجه الحزب المذكور في بيان، انتقادات حادة للفيلم الذي يتناول "المثلية الجنسية بالمجتمع المغربي" مطالبا بوقف عرضه بالقاعات السينمائية، معتبرا أنه " يروج للشذوذ الجنسي، ويتجاوز الثوابت الدينية والوطنية".

ويأتي هجوم الحزب على فيلم "أزرق القفطان" ضمن سلسلة هجوم على قائمة من الأفلام المغربية وإخضاعها "للمحاكمة الأخلاقية"، حيث سبق أن طالب بمنع عرض إنتاجات سينمائية مغربية، من ضمنها. "حجاب الحب" لعزيز السالمي، "كازانيكرا" لنور الدين لخماري، و "ماروك" لليلى المراكشي.

في حالة أخرى من حالات الرقابة على الفيلم المغربي، وخلال احتضان سينما الصحراء بأكادير لـ"بانوراما السينما المغربية" خلال شهر غشت الماضي، اعترض مكلف بحراسة مؤسسة سينمائية على عرض فيلم مغربي لأنه يتضمن "مشهد قبلة"، واستعاض عنه في فترة غاب عنها مسؤولو دار العرض. ويتعلق الأمر بفيلم "موت للبيع" للمخرج فوزي بنسعيدي الذي يعود تاريخ عرضه الأول إلى سنة 2011.

هذه الرقابة على فيلم فوزي بنسعيدي التي جاءت بمبادرة من حارس أمن خاص، أثارت ردود فعل في أوساط النقاد والجمهور السينمائي المغربي، وطفت إلى السطح إشكالية "خنق الإبداع في المغرب بين رقابة الدولة وفوبيا الجمهور".

يبدو مما سبق أن الرقابة على الإبداع في السياق المغربي تطرح العديد من الاستفهامات حول حدود الإبداع، فهل الفيلم "الجريء هو الفيلم الذي يخوض في قضايا تدخل في خانة الممنوع (الدين، السياسة والجنس)؟ أم أنه ذلك الذي يعرض مشاهد غير مألوفة لدى المجتمع؟ وهو ما يطرح اشكالا آخر حول من يخنق الإبداع في السياق المغربي، هل فوبيا الجمهور أم رقابة الدولة؟

فوبيا الجمهور أم رقابة الدولة.. من يخنق الإبداع في المغرب؟

لطالما لعبت السينما دورا مهما في خلق الجدل وإثارة النقاش على مستوى التمثلات المجتمعية تجاه قضايا عديدة مرتبطة بالسياق المغربي، يقول المخرج عز العرب العلوي ارتباطا بهذا، إن "حرية الإبداع السينمائي في المغرب تصطدم لحد الآن برقابة من نوع آخر، يمكن تسميتها بـ "الرقابة الوهمية" وهي ناجمة عن تمثلات مجتمعية تجعل من المبدع، كي لا يتعرض فيلمه للرفض الجماهيري بسبب المعتقدات والتقاليد والأخلاق والدين، إما يكتب السيناريو ويعيد تنقيحه وتعديله ليلجأ أخيرا لتوظيف الرمز والإيحاء وتبني أسلوب ورؤية إخراجيين يعتمدان رسائل مشفرة تخاطب جمهورا ذا ثقافة مختلفة تمكنه من قراءة وتحليل الخطاب البصري بشكل متفاوت. وإما يسقط في التقليد وتكرار المواضيع، فينهج معالجة سطحية لها، ويقع في الابتذال".

 وحسب المتحدث ذاته، فهذا الواقع يعمق مشاكل السينما المغربية، بدل المضي بها نحو أفق أرحب، ونحو هموم المجتمع المغربي وعلاقة الإنسان المغربي بالآخر وبمحيطه، من خلال اقتحام مواضيع سياسية واجتماعية وثقافية وتناولها برؤية وأسلوب إخراجي أكثر عمقا لإعادة صياغة واقع مغربي عبر خطاب بصري سينمائي يليق بالمغرب وموروثه التاريخي والشعبي والهوياتي.

وحيث إن الإبداع السينمائي بالمغرب لطالما تم إخضاعه للمراقبة تحت مختلف المسميات ومن قبل مختلف الجهات، إما رقابة تفرضها الدولة وإما رقابة يفرضها الجمهور، فالعامل الأول مرتبط بالنظام العام والتوجه الرسمي للبلاد، وهذا يبقى مرهونا بالتوجهات، والمعتقدات والخلفية السياسية للمبدع.

يصرح عز العرب العلوي، في هذا الصدد بأن "رقابة هذا العامل تبقى محدودة الأثر على الإبداع، فيمكن للمبدع الآن أن يصور ما يريد داخل المغرب وخارجه إذا كانت له الشجاعة لتحمل تبعات ذلك التي غالبا ما أصبحت تحرم صاحبها من دعم الدولة أو ما شابه، لأن هامش الحرية الآن بالمغرب أصبح أكبر من ذي قبل إلى حد ما".

ويضيف العلوي "فيما العامل الثاني والذي يمكن أن نسميه بفوبيا الجمهور لدى المبدع السينمائي الذي يستحضر المتلقي بقوة أثناء كتابة السيناريو وأثناء التصوير والإخراج السينمائي، بسبب تمثلات لدى المُشاهد المغربي، ذات علاقة بأحكام مسبقة عن موضوع الفيلم وبموانع ومكبوتات سياسية وسوسيو-ثقافية ودينية ذات صلة بالمجتمع المغربي. مما يجعل المبدع إن خضع لهذا القيد يصبح تابعا ومقيدا بقاعدة "ما يطلبه المشاهدون"، بدل أن يكون هو القاطرة التي تجر المجتمع وترقى به وتُجَود الذوق الفني العام".

في المقابل يذهب الناقد السينمائي المغربي سليمان الحقيوي، إلى القول بأن الرقابة على السينما في المغرب لا تصل إلى حد وصف "خنق"، بقدر ما هو سياق معقد من سيرورة نمت في ظروف هجينة، بحيث إن سياسة الدعم والاعتماد الكلي في أنتاج الأفلام على دعم الدولة، جعل السينما تدخل روتينا مقاولاتيا عند الكثير من المخرجين، مساحة المجازفة تقلّصت، واتسعت مساحة التنميط، لكن أسماء كثيرة شابّة تصنع سينما بوجه آخر لا ينضبط لهذا المسار بل لتصوّر مختلف ناتج عن رؤية جديدة للفن والمجتمع، أفلام تصل إلى منصات أهم المهرجانات العالمية".

ويضيف الحقيوي، "الرقابة الأخلاقية على السينما المغربية تنتعش في ظل التضييق على الفن، لأنها معركة مفتوحة منذ زمن والحسم في سؤال الفن والأخلاق، غير مجدي في ظل موقف غير واضح من قيم الحداثة، نتيجة لذلك تثار معارك ضدّ أفلام أو قضايا، مشاهد أو لقطات، بين الفينة والأخرى، حتى وإن كانت معروضة في قاعات سينما لجمهور يختار مشاهدتها، يسهل تحريك المجتمع ضد فيلم أو مخرج بدعاوي مختلفة، المس بالأخلاق. لكن هذا ليس الخطر الوحيد الذي يهدّد السينما في بلدنا، الخطر الأكبر يكون عندما لا يتبنى المخرجون أنفسهم مثل تلك القيم، أن يكون الفن بالنسبة إليهم وسيلة ربح فقط، أن يتحدوا هم أنفسهم ضدّ فيلم أو مخرج ويتبرؤوا منه، أن ينعدم الصدق اتجاه الفن، هذا هو الخطر الحقيقي، وهذه أقسى أنواع الرقابة".

انفصام الرقابة على السينما المغربية: المسموح في المهرجانات السينمائية، ممنوع في قاعات العرض

يعرف السياق المغربي إلى جانب الرقابة التي تفرضها الدولة أو المجتمع، ما يصفه النقاد السينمائيون بـ "انفصام الرقابة على السينما" ؛ ومرد ذلك إلى المفارقة على مستوى السماح بعرض أفلام محلية أو أجنبية في المهرجانات السينمائية دون تدخل مقص الرقيب بينما في قاعات العرض يتم حذف مشاهد لدواعي سياسية أو جنسية وغيرها، وهو الشيء الذي "يشوه معالم الإبداع السينمائي" ويفرض على المتلقي قانون مشاهدة يحتكم لضوابط ذات طابع سياسي أو مجتمعي أو أخلاقي بكل أبعادها الثقافية و الدينية.

يصرح المخرج عز العرب العلوي في هذا الصدد، "ما هو مسموح به في قاعات المهرجانات السينمائية داخل المغرب، والمعروضة أمام جمهورٍ محدود نسبيا، مُكونٍ من صناع السينما والفنانين والنقاد وأرباب قاعات السينما وشركات الإشهار والتوزيع، والسينفيليين، ليس مسموحا به داخل قاعات العرض، بل وقد يتعرض للمنع من الوصول للقاعات السينمائية بالرغم من حصوله على جوائز في المهرجانات الوطنية والدولية".

ويتابع العلوي، "قد نسمي ذلك انفصاما داخل السياق السينمائي المغربي؛ مرده بالضرورة لما هو سياسي أو  أخلاقي أو ديني. وهو انفصام مرده ليس فقط للرقابة الرسمية، بل أيضا للمجتمع المغربي نفسه والتمثلات اتجاه مجموعة مواضيع لاتزال طابو ليس فقط في السينما، بل حتى في النقاشات اليومية داخل الأسر وفي الإعلام والتلفزيون، وحتى على مواقع التواصل الاجتماعي التي يفترض فيها حرية أكبر من باقي المنصات والوسائط".

وفي المضمار ذاته، قال النقاد السينمائي سليمان الحقيوي "إنه لطالما وُجد الانفصام وسيظل موجودا في المجتمع المغربي، وبالتأكيد يظهر ذلك في الموقف من السينما، فثقافة المجتمع في الكثير من مناحي الحياة تقليدية، بخلاف ما يظهر من مظاهر الحداثة، أضف إلى ذلك أن المناهج الدراسية تخلو من أي تربية على الفن والحرية، لذلك ينظر المجتمع إلى الفن والفنانين عبر المنظار الديني".

ويذهب الحقيوي إلى أنه، في ظل السياق الحالي يبدو الاستثمار الذي توليه الدولة للسينما مهمّ جدا، وسيكون أكثر نجاعة إذا اهتم بمشاريع موازية أخرى تبدأ بالمدرسة. وهناك بالفعل خطوات كثيرة تأتي تباعا في هذا السياق، فمهاهد السينما والتكوينات في السينما داخل الجامعة في ازياد مطّرد، وهذا سيبدّد الكثير معالم أزمة الرقابة مستقبلا.  ثم إن العمل يجب أن يكون في اتجاه تعزيز وصول الأفلام إلى الجمهور.

رهان حرية التعبير مرهون اساسا بحرية الابداع

يبدو أن عدسة الرقابة على السينما المغربية تضيق في كثير من الحالات حيث يواجه صناع السينما برفض أعمال توصف بالجريئة أو غير المناسبة للسياق المغربي، تحت ذرائع عدة، وعليه  فحرية التعبير والإبداع أضحت من الحقوق الأساسية التي من شأنها أن تضمن مجالا أرحب لإنتاج سينما ترقى لما يستحقه المشاهد المغربي اليوم، وما تستحقه السينما المغربية بدورها.

ومن خلال ما تعرضه النصوص القانونية المرتبطة بالحريات العامة والحق في التعبير والرأي، يتبين أن حرية التعبير من خلال السينما في السياق المغربي تخضع لضوابط واعتبارات عدة، تفرضها الثقافة والمجتمع والبيئة السياسية وغيرها.

ورغم ذلك فإن السياق اليوم لا يسمح باستغلال القيود والضوابط بمختلف أنواعها للتضييق على حرية التعبير عبر أي شكل من أشكال الإبداع.