استطرادات.. آلفريد جوزيف ناكيت والحركة الصهيونية

تيل كيل عربي

بقلم: ناجي العماري

إنَّ نقد الأسس التي تأسست عليها "دولة إسرائيل" والحركة الصهيونية لا يُمثِّل مجرد موقف فكري عابر أو اعتراضًا عاطفيًا، بل هو صرخة واعية نابعة من معاناة إنسانية عميقة وموقف فكري يستند إلى قيم العدالة والمساواة. قد يبدو هذا النقد مألوفًا عندما يصدر عن مفكرين وأكاديميين عرب مثل إدوارد سعيد وفرج فودة وكمال ناصر وجورج طرابيشي وغيرهم.

لكن ما يضفي عليه بُعدًا أعمق ومصداقية أكبر هو صدوره عن مفكر يهودي أوروبي عاش في طيات التاريخ الذي شهد نشأة الصهيونية، وكان واعيًا بأبعادها ومآلاتها. هذا النقد يتردد صداه اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، وقطاع غزة، وأراضي 1948.

ما يجعل هذا النقد مؤثرًا هو أنه صادر عن ألفريد جوزيف ناكيت، الطبيب والكيميائي الفرنسي، البرلماني اليساري، وأحد قيادات الحزب الراديكالي. عاش ناكيت في أوروبا القرن التاسع عشر، حيث كانت الكراهية الطبقية متأججة، واليهود يتعرضون للإقصاء والاضطهاد. وسط هذه الظروف، آمن ناكيت بأنَّ الحل لا يكمن في إنشاء دول جديدة على أسس دينية أو عرقية، بل في بناء مجتمعات قائمة على المساواة والعدالة الاجتماعية، حيث تزول الحواجز الطبقية والعرقية.

الصهيونية كأداة للإمبريالية

في كتابه "الإمبريالية والصهيونية"، وصف ناكيت الحركة الصهيونية بأنها أداة جديدة في يد القوى الاستعمارية تهدف إلى تقسيم الشعوب واستغلالها تحت غطاء الدين والقومية. بالنسبة له، لم تكن الصهيونية حركة تحرر بل جزءًا من مشروع استعماري يهدف إلى تحقيق مصالح القوى الكبرى، خاصة في الشرق الأوسط. كتب ناكيت: "الصهيونية ليست سوى وسيلة استعمارية تهدف إلى تعزيز الهيمنة الغربية، وليس إلى تحرير اليهود."

الصهيونية والتقسيم العرقي والديني 

رأى ناكيت أنَّ الصهيونية تهدد وحدة المجتمعات من خلال تعميق الانقسامات العرقية والدينية. في كتابه "الصهيونية والإمبريالية: تواطؤ خفي", كتب: "الصهيونية تُضعف أسس المساواة من خلال الترويج لفكرة إنشاء كيانات سياسية تعتمد على الهويات الدينية والعرقية بدلًا من المواطنة الشاملة." بالنسبة له، هذا المنطق يقوّض النضال من أجل العدالة الاجتماعية ويؤدي إلى تفكيك المجتمعات بدلًا من توحيدها. عبَّر عن ذلك بقوله: "وُلِدت يهوديًا، وأعتز بانتمائي للقومية الفرنسية. لكن، هل يمكن أن نعتبر اليهود أمة حقًا؟"

الصهيونية وحيلة الإمبريالية الغربية

اعتبر ناكيت أنَّ الصهيونية جزءٌ من استراتيجية استعمارية أوسع تستهدف الشرق الأوسط لتحقيق مصالح الإمبريالية الغربية. لم تكن "الدولة اليهودية" بالنسبة له مشروعًا قوميًا، بل قاعدة عسكرية متقدمة تخدم القوى الاستعمارية. وأكد أنَّ التعاون بين الاستعمار والصهيونية لم يكن عشوائيًا، بل كان مدفوعًا بمصالح مشتركة تهدف إلى تمزيق الحركات الوطنية وإضعاف المنطقة للاستيلاء على مواردها. كتب: "الصهيونية ليست مشروعًا لتحرير اليهود، بل أداة لتكريس الهيمنة الإمبريالية على الشرق الأوسط."

النضال الطبقي مقابل الحلول القومية 

كاشتراكي، كان ناكيت يؤمن أنَّ الحلول القومية لا تقدم إجابات حقيقية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية. رأى في الصهيونية تشتيتًا للجهود عن النضال الطبقي المشترك، الذي يمكن أن يحقق العدالة والمساواة للجميع بغض النظر عن العرق أو الدين. وكتب في كتابه "الصراع الطبقي والتحرر الوطني": "إن تحقيق المساواة الحقيقية يتطلب نضالًا طبقيًا موحدًا، لا إنشاء كيانات قومية جديدة تزيد الانقسامات."

العدالة الاجتماعية كبديل للصهيونية 

بالنسبة لناكيت، كان الحل يكمن في تحقيق العدالة الاجتماعية بدلًا من تقسيم المجتمعات إلى كيانات عرقية أو دينية. كان يؤمن بإصلاحات شاملة تضمن حقوق الجميع في المجتمعات التي يعيشون فيها، مشددًا على أنَّ الحلول القائمة على التفرقة تزيد من تعقيد الأزمات بدلًا من حلها. قال: "معاناة اليهود في أوروبا لن تُحل عبر إنشاء كيانات قومية جديدة، بل ببناء مجتمعات عادلة تتسع للجميع دون تمييز."

ألفريد ناكيت والدعوة إلى الوحدة الإنسانية 

لم يكن نقد ألفريد ناكيت للصهيونية مجرد رفض سياسي، بل كان تعبيرًا عن رؤية أعمق لعالم أكثر عدلًا. رفض الحلول المبنية على الانتماءات الدينية أو العرقية، ورفع راية النضال الطبقي كطريق نحو العدالة والمساواة. كان يرى أنَّ الحروب لا يجب أن تُخاض لتقسيم الأرض، بل لتحقيق كرامة الإنسان. دعانا ناكيت إلى بناء عالم قائم على التعاون والتضامن، حيث تتحقق العدالة للجميع بعيدًا عن الانقسامات التي تزرعها المشاريع الاستعمارية.

وكما قال لينين: "الوطنية القومية، عندما تصبح أداة لتقسيم الشعوب وتفريقها، تتحول إلى أداة للإمبريالية. التحرر الحقيقي لا يتحقق إلا من خلال كفاح طبقي مشترك ضد جميع أشكال الظلم والاضطهاد."