الاقتصادي الفينة: لهذه الأسباب تراجع استهلاك المغاربة للإسمنت منذ الربيع العربي

المصطفى أزوكاح

لم تكف مبيعات الإسمنت بالمغرب عن الانخفاض منذ الربيع العربي، بل إن تلك المبيعات دخلت في دورة تراجعية، لم تشهدها المملكة منذ دخول الحماية. هذا ما يسجله الاقتصادي المغربي، إدريس الفينة، الذي  أنجز أطروحة دكتوراه، حول الاستثمارات الأجنبية في قطاع العقار. الفينة، الذي خبر جيدا قطاع الإسكان، عندما كان مديرا مركزيا بالعمران، والذي عمل مستشارا لدى عدد من الشركات العاملة في مجال البناء والأشغال العمومية، وهو عضو المركز المغربي للظرفية، يرصد، في هذا الحوار مع "تيل كيل عربي"، العوامل التي تفسر انخفاض استهلاك المغاربة للإسمنت.

لم يغب عن نظر المراقبين، بعد صدور الإحصائيات حول مبيعات الإسمنت بالمغرب، التراجع الكبير الذي سجلته، مقارنة بالمستوى الذي بلغته في العشرة أعوام الأخيرة.. ما الذي يفسر هذا التراجع؟

هذا أكبر انخفاض سجل منذ 2011، حين تجاوزت المبيعات 16 مليون طن، قبل أن تنحدر إلى حوالي 13,3 مليون طن في العام الماضي. فالانخفاض المتراكم منذ 2011 وصل 18 في المائة، ما يعني أننا فقدنا حوالي ثلاثة ملايين طن خلال هذه الفترة، الشيء الذي يترجم بخسارة على مستوى الاستثمار في قطاع البناء والأشغال العمومية بـ510 مليار درهم وما يقابله من مناصب شغل. وهذا رقم كبير جدا يسائل الجميع للتأمل فيه.

كيف ذلك؟

عندما نفقد ثلاثة ملايين طن من الإسمنت على مستوى استهلاك الإسمنت منذ 2011، فإن ذلك يعني عدم إنجاز استثمارات في حدود 510 ملايير درهم في قطاع البناء والأشغال العمومية، ما يستدعي دق ناقوس الخطر حول وضعية هذا القطاع، الذي يمر بمرحلة صعبة. وهذا التراجع مس خصوصا قطاع بناء المساكن، الذي يتوزع بين نشاط بناء المساكن الجديدة، ونشاط صيانة المساكن المأهولة، الذي يستهلك أكثر مما يستوعبه بناء المساكن الجديدة بالمغرب.

قبل الخوض في تفاصيل العوامل المفسرة لتراجع استهلاك الإسمنت، ما هي الأهمية الاقتصادية لهذا القطاع؟

يتراوح رقم معاملات قطاع الإسمنت بين 13 و14 مليار درهم في العام الواحد، غير أنه يجب أن ندرك أن له آثارا على قطاع البناء والأشغال العمومية، الذي تصل الاستثمارات فيه إلى 160 مليار درهم. وهذا يدفعنا إلى التأكيد على أن فقدان ثلاثة ملايين طن، على مستوى الطلب على الإسمنت منذ الربيع العربي، يعني عدم إنجاز استثمارات في حدود 510 مليار درهم في قطاع البناء والأشغال العمومية.

ما الذي يفسر حجم المبيعات التي وصلت إلى 16 مليون طن في 2011 و2012؟

تزامن عام 2011 مع الربيع العربي، حيث وصل استهلاك البناء السري للإسمنت إلى مستويات قياسية. فقد استغل العديد من الأفراد والأسر تلك الظرفية، من أجل بناء أو إضافة طوابق جديدة دون الحصول على تراخيص. ما يعني أن البناء السري يساهم بشكل كبير في دينامية البناء ومنه في الرفع من مبيعات الإسمنت.

تزامن عام 2011 مع الربيع العربي، حيث وصل استهلاك البناء السري للإسمنت إلى مستويات قياسية

لماذا انخفض استهلاك الإسمنت في مكون صيانة المساكن؟

هناك سببان يفسران هذا الوضع. فمن جهة، استنفذت إمكانيات ادخار الأسر بالمغرب، ما لا يترك لها هوامش من أجل صيانة منازلها، ومن جهة أخرى، عمدت الداخلية عبر مصالحها، إلى تشديد المراقبة على عمليات البناء العشوائية، وخصوصا زيادة طوابق إضافية أو الإصلاحات التي تتم بطريقة سرية. هذا الأمر أثر بشكل كبير على نشاط السكن السري الذي يمثل مكونا أساسيا لقطاع السكن في المغرب، وهو الأمر الذي انعكس سلبا على مبيعات الإسمنت.

هل لدينا فكرة حول حصة السري في قطاع الإسمنت؟

عندما لم يكن هناك تشديد للرقابة على البناء السري، كان يمثل حصة 15 في المائة، دون احتساب أحياء الصفيح.

وماذا عن الصيانة؟

تمثل حوالي الثلث، من الاستهلاك الشامل للإسمنت، حسب الدراسات الميدانية التي تم إنجازها في هذا المجال.

ماذا عن مشاريع بناء المساكن الجديدة؟

عرف هذا النوع من البناء تراجعا على مستوى الاستثمارات لأسباب متعددة، وهو ما أثر سلبا على  مستوى استهلاك الإسمنت، لأن الدينامية السابقة تراجعت. فلم يعد الطلب على المساكن الجديدة، كما كان. زيادة على ذلك، هناك مخزون لدى المنعشين العقاريين لم يتم تصريفه، حيث لم يعد بإمكانهم البناء بنفس الوتيرة السابقة.

تتحدثون عن البناء السري والصيانة، لكن هناك من يرد تراجع المبيعات إلى ركود قطاع البناء والأشغال العمومية المنظم..

عندما نتحدث عن البناء والأشغال العمومية، يجب التمييز بين الأشغال العمومية، التي تشمل جميع الأوراش الكبيرة والبنايات العمومية، وبين بناء عقارات جديدة، الذي يتضمن البناء الذي يتم عبر المنعشين العقاريين الصغار والمتوسطين والكبار والبناء الذاتي، وبين أشغال الصيانة، وهي الأشغال التي تهم حظيرة المساكن بالمعرب التي تقدر اليوم بثمانية ملايين مسكن بالوسط الحضري فقط.

ما أهميتها على مستوى استهلاك الإسمنت؟

 هذه الحظيرة تتقادم، ما يفضي إلى عمليات صيانة، تستدعي استهلاك الإسمنت، حيث تخلص البحوث الميدانية المنجزة على هذا المستوى، إلى أن الصيانة، التي تشمل كذلك، إضافة طابق أو أكثر، تستوعب أكبر جزء من مبيعات الإسمنت بالمغرب.

الصيانة، التي تشمل كذلك، إضافة طابق أو أكثر، تستوعب أكبر جزء من مبيعات الإسمنت بالمغرب

يفهم من ذلك أن تشديد المراقبة على عمليات الصيانة، انعكست على مبيعات الإسمنت..

صحيح، فمنذ تشديد الرقابة من قبل مصالح وزارة الداخلية على كل أشكال السكن العشوائي، تراجعت عمليات الصيانة، مما أثر سلبا على مبيعات الإسمنت. ويجب أن نعلم أن الأفراد والأسر، اعتادوا على القيام بعمليات الصيانة بطريقة سرية، في نهاية الأسبوع، أو خلال فترات الأعياد، سواء تعلق الأمر بترميمات أو إضافة طوابق أو غرف جديدة، غير أن السلطات أضحت أكثر حرصا على مراقبة ذلك، بل إنها لا تمنح تراخيص للعمليات التي لا يرعاها مهندسون معماريون أو مكتب متخصص، خاصة بعد انهيار منازل بالدار البيضاء ووقوع ضحايا بشرية.

ماذا عن البناء الذاتي؟

يمثل البناء الذاتي حوالي 50 في المائة، دون احتساب عمليات الصيانة، وهي النسبة ذاتها التي يحظى بها الإنعاش العقاري المنظم. وقد حافظ البناء الذاتي على ديناميته السابقة، رغم انخفاض وتيرة نموه.

نلمس لديكم نوعا من القلق عندما تتحدثون عن التراجع المسجل في السبعة أعوام الأخيرة، هل في تاريخ استهلاك الإسمنت بالمغرب ما يبرر ذلك؟

الدورة التراجعية (cycle baissier) التي دخلها  قطاع الإسمنت منذ 2012، لم يسبق لنا أن لاحظناها في السابق. يجب أن نعلم أننا نتوفر على إحصائيات حول استهلاك الإسمنت منذ سنة 1912، التي تتزامن مع دخول الحماية الفرنسية. ووهي من أقدم الإحصائيات الموثوقة التي يتوفر عليها المغرب والتي تسمح لنا من القيام بدراسات متعددة على مستوى النشاط الاقتصادي وخصوصا الدورات الاقتصادية التي عرفها المغرب. وعندما ننظر إلى الانخفاضات التي شهدها استهلاك الإسمنت في 1994 و1982، فإننا نلاحظ أنها لم تستغرق سوى سنة واحدة أو سنتين على أبعد تقدير، بينما نحن اليوم نشهد تراجعا على مدى سبعة أعوام متتالية. وهذا معطى مثير للقلق، بالنظر لتاريخ استهلاك الإسمنت بالمغرب، خاصة أن هذه الظاهرة، لم يعرفها المغرب، حتى في سنوات التقويم الهيكلي.

هل هذا الوضع له علاقة بمتغيرات بنيوية أم ظرفية؟

هناك العديد العوامل التي يمكن أن تفسر هذا الوضع. فقد كان هناك عرض كبير على مستوى العقارات في الفترة الممتدة بين 2004 و2011، حيث أن السوق لم يكن قادرا على استيعاب ذلك العرض. زد على ذلك أن العرض أضحى يتحدى القدرة الشرائية للأسر، في ظل ارتفاع الأسعار، التي وصلت إلى مستويات أثرت على أداء سوق العقار. فإذا أخذنا بعين الاعتبار العقار (le foncier)، نلاحظ أنه لم يسبق له أن وصل إلى المستوى الحالي. ونحن نوجد، في تقديري، في مرحلة تصحيح تدريجي للسوق، وأتمنى أن نخرج من هذه الدورة التراجعية لاستهلاك الإسمنت بأقل الخسائر بالنسبة للمنعشين العقاريين والأبناك.

كيف ذلك؟

عندما نتناول قطاع العقار بالمغرب، نلاحظ أن المنعشين العقاريين استدانوا كثيرا، كما أن القطاع يتضمن الكثير من التوظيفات Placements في العقارات، فعندما نعلم بأن هناك حوالي 1,2 مليون شقة فارغة بالمغرب، ندرك أن الأمر يتعلق بتوظيفات، حيث أن أفراد وشركات اشتروا عقارات من أجل جني عائدات من ورائها بعد ذلك. وهذا يمكن أن يخلق مشاكل لنظام الادخار والنظام البنكي على حد سواء، خصوصا إذا علمنا أن أكثر من 500 مليار درهم من القروض ممنوحة لشركات وأفراد بضمانات عقارية.

يتجلى أن المستثمرين في قطاع الإسمنت وسعوا قدراتهم الإنتاجية، ألم يستحضروا احتمالات تراجع الطلب وبنيته؟

اعتمدت شركات صناعة الإسمنت منذ 2008، على وتيرة ارتفاع الطلب، في اتخاذ قرار توسيع قدرات الإنتاج. ولاحظنا إحداث وحدات جديدة، وشهدنا وصول مصنع جديد، ممثلا في "إسمنت الأطلس"، ورأينا مؤخرا حلول وحدات جديدة بالجنوب. هذا ساهم في زيادة إضافية لقدرات الإنتاج بحوالي خمسة ملايين طن. فهي قدرات إنتاج نائمة الآن، يمكن استعمالها في أية لحظة، عندما يعود الطلب للانتعاش.

لكن ما الذي دفع المستثمرين إلى توسيع القدرات، خاصة أن ذلك جاء في سياق متسم بالأزمة العالمية، التي اندلعت من قطاع العقار في بلدان أخرى؟

عندما يريد مستثمر توسيع القدرات أو بناء وحدة جديدة، يدرس أداء السوق على مدى عشرة أعوام على الأقل ويقوم بتحليلات استشرافية. فإلى غاية 2011، لم تكن هناك مؤشرات، تنبئ عن احتمال تراجع الطلب. صحيح أن أزمة 2008، أشرت على تحول كبير في الاقتصاد العالمي، غير أننا لم نلمس أن ذلك سيؤثر على قطاع البناء والأشغال العمومية، الذي عرف سنوات نموا سريعا إلى غاية 2011، التي شكلت منعطفا جديدا في مسار هذا القطاع، بما كان له من تأثير على صناعة الإسمنت.

لكن ألم يكن المصنعون يعلمون أن الطلب على الإسمنت يفسر بالبناء السري أو الصيانة، وليس فقط قطاع البناء والأشغال العمومية المنظم؟

نحن أمام واقع، فالبناء السري، قائم، ويجب أخذه بعين الاعتبار، صحيح أنه لا يمكن الاعتماد عليه دائما في التوقعات، لكنه يؤثر، سلبا أو إيجابا، على استهلاك الإسمنت.

ماذا عن التصدير في ظل القدرات الإضافية النائمة؟ هل القطاع تنافسي عند التصدير بالمغرب؟

التنافسية عند التصدير ليست مسألة سهلة في قطاع الإسمنت، فهناك عاملان حاسمان على هذا المستوى: الطاقة والنقل. هذان عاملان لا يخدمان مصالح القطاع بالمغرب. ما يعني أنه من الصعب تصدير الإسمنت، لكن يمكن تصدير "الكلينكير"، والشركات المغربية تفعل ذلك. فلكي تزود السوق الإفريقية بالإسمنت، يجب أن تحدث وحدة إنتاج قريبا من تلك السوق. وهذا خيار اهتدى إليه مصنعون مغاربة.

كيف يعيش المهنيون هذا الوضع؟

يجب على المستثمرين التعايش مع هذا الوضع، والعمل مع المنعشين العقاريين والفاعلين في الإنعاش العقاري، من أجل عودة الروح لهذا القطاع في جميع مكوناته، مع العمل على إعطاء دفعة جديدة للطلب. كما يجب العمل على إنعاش قطاع العقار والأشغال العمومية، بعيدا عن المشاريع التي تنجزها الدولة. وهناك إمكانيات لتجاوز الوضع الحالي.

كيف يمكن تحقق ذلك، في ظل شكوى المنعشين العقاريين والمستثمرين في الأشغال العمومية من عدم وضوح الرؤية منذ حكومة عبد الإله بنكيران؟

أتصور أن الجميع ساهم في الوضع الحالي. وبالتالي، فإن الحل يجب أن يأتي عبر مجهود يساهم فيه الجميع. فالدولة يجب أن تبذل مجهودا على المستوى التنظيمي والتشريعي والجبائي. ويفترض في وزارة الإسكان بلورة رؤية تعطي دفعة جديدة لقطاع السكن والعقارات. كما يتوجب على المنعشين العقاريين والبنوك، المساهمة في الخروج من الوضع الحالي. نحن نعرف ما الذي يفترض في كل متدخل فعله، يكفي أن تتبلور الإرادة من أجل ذلك. وقد انكب باحثون في إطار Think Tank  أخيرا، على تصور حزمة من الإجراءات العملية ومن التدابير من أجل إنعاش قطاع البناء والأشغال العمومية.