الشرقاوي:المغرب يقبض العصا من الوسط لكي لايغضب ترامب

الشرقي الحرش

ما هي دلالات توقيت الإعلان عن هذه الصفقة؟

ظلّت تفاصيل هذه "الصّفقة" محلّ تخمين ومثار اجتهادات متباينة منذ أكثر من عام ونصف عندما قرّر ترمب نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.

وخلف توقيت إعلانها أواخر يناير 2020 أكثر من دلالة وأكثر من حسابات ضمن اعتبارات السياق السياسي الداخلي في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وسط تشابه دائرة الانحسار السياسي الراهن حول ترمب ونتياهو.

من المفارقات المثيرة أن يُشهر الرئيس ترمب في الشّهر ذاته "سيف الحرب" إزاء إيران باغتيال الجنرال سلميان في بغداد، ثم يلوّح ب"حمامة سلام" يلوح من خلالها بإمكانية إقامة "سفارة أميركية في دولة فلسطينية وعاصمتها القدس".

لكنّ الخارطتيْن المقترحتيْن لتصوّره ل"دولة فلسطين" و "دولة إسرائيل" جديدتين تكشف النية في ضمّ الفلسطيين في تجمعات سكانية بوجود "مواقع استراتيجية" كناية عن قواعد عسكرية إسرائيلية، وطريق واحد معزول يوصلهم نحو البحر. ولا يستقيم المنطق بالتلويح ب"دولة فلسطين" إذا كانت عديمة السيادة على الأرض والبحر والجو، وهي سيادة تقرّها جميع نظريات الدولة منذ اتفاقية ويستفاليا لعام 1648.

يُعزى إعلان "الصفقة" الآن إلى حاجتين آنيتين: حاجة ترمب لافتعال أنه "رجل وساطة دولية" و"خطيب السلام" ومالك المفتاح لحل الصراع على أمل أن يستقطب الرأي العام الامريكي، ويخفّ عن عنقه حبل المحاكمة الراهنة في مجلس الشيوخ. هو يفتعل هذه الخطابية والتصفيقات في البيت الابيض وتحريك الدورة الإخبارية حول الصفقة بخطاب السلام كما افتعل قبل أربعة أسابيع الأزمة مع إيران والتباري مع طهران بخطاب الحرب والوعيد.

في المقابل، يقدم ترمب لنتياهو طوق نجاة من شبه غرق سياسي بعد فشله في تشكيل حكومة جديدة وقرب موعد إجراء انتخابات إسرائيلية جديدة بعد أسابيع قليلة، فضلا عن مسار التحقيقات القضائية مع نتنياهو بشأن ملفات فساد مالي واستغلال صلاحياته. باختصار، إعلان الصفقة احتفالية سياسية تثير الأضواء البراقة على أمل أن تعيد ترمب ونتنياهو إلى الواجهة في فترة الحملات الانتخابية الأمريكية والإسرائيلية.

ما الذي يسعى ترامب الى تحقيقه بالتلويح بفحوى الصفقة؟

يساور ترمب حلمٌ منذ سنوات هو أن يدحض قناعة المؤسّسة السياسية، بما فيها الكونغرس والحزبان الديمقراطي والجمهوري ومراكز القرار الأخرى في واشنطن، أن الزعامة السياسية لا تحتاج بالضرورة لرجال سياسة متمرّسين، خاصة بعد أن تغلب على ستة عشر من منافسيه خلال الحملات الانتخابية عام 2016.

يعتقد أن أصحاب الثروة والمضاربين في العقارات أولى من غيرهم بقيادة العربة السياسية، وأن يتحرّك السياسيون والدبلوماسيون المحترفون إلى الكرسي الخلفي. عصر المال والاقتصاد أوّلا، والسياسة لاحقا وكأنّ الديمقراطية الليبرالية في نظره تعتمد على قوة المال وليس ألمعية الفلسفة السياسية ولا أخلاقيات الحكم ولا توافقات العلاقات الدولية.

يؤمن ترمب أيضا أن منطق الصفقاتية الذي تشبع به منذ السبعينات في إبرام صفقات حول العقارات وصفقات مع محامي خصومه في المحاكم تظل معادلة راجحة لتسوية كافة الصراعات والأزمات الدولية المزمنة مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي القائم منذ عام 1948، مرورا بما حدث عام 1967 وتعرجات الوساطات العربية والأوروبية مثل المبادرة العربية واتفاق أوسلو. هو يتهكم على رجال السياسة والدبلوماسية بأنهم يفقدون البوصلة، وأن "ألمعية" ترمب في إبرام صفقات هي "البديل الواقعي وغير السفسطائي" للتعامل مع الصراعات، بل يختزل حلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في مجرد جلوس محمود عباس وبنيامن نتنياهو حول فنجاني شاي، والتوصل إلى صفقة!

يسعى ترمب بهذه الصفقة لتعزيز شعبيته بين اليمين المتطرف ومؤيدي إسرائيل من يهود أمريكا والجماعات الأنجيلية التي تتمسك بمصلحة إسرائيل "أرض الميعاد" أكثر من اليساريين في إسرائيل. هي قاعدة انتخابية بنسبة 30 في المائة من الأصوات في انتخابات 2016، واليوم يأمل ترمب أن يعيد الاستراجية ذاتها في جمع المجد من طرفيه: الوعيد لإيران والتبشير بإسرائيل يهودية الهوية، وموحدة العاصمة في القدس، وذات سيادة ستمتد إلى غور الأردن، على غرار اعترافه ب"سيادة" إسرائيل على مرتفعان الجولان العام الماضي.

كيف تفسر الدعم الامريكي لإقامة دولة يهودية على انقاض الفلسطينين؟

هناك مستويان اثنان لهذا الدّعم: دعم أمريكي تاريخي تقليدي conventional support لأن تتقوّى إسرائيل وتتفوق على جيرانها العرب عسكريا واستراتيجيا باعتبراها الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة، ودعم ترمبي أنجيلي جديد بامتيازSuper support لإسرائيل على أن تصبح دولة يهودية الهوية، ليكودية العقيدة السياسية، وأحادية التاريخ والسيادة والأرض.

ترمب اليوم يكسر قاعدة "الأرض مقابل السلام" و"مبدأ حل الدولتين" التي قامت عليهما جميع وساطات الرؤساء السابقين في البيت الأبيض.

وتزداد المفارقة غرابة عندما ينجح ترمب في تحويل دور أمريكا "راعية عملية السلام" سابقا إلى أمريكا "راعية أمن إسرائيل" من خلال تذويب المطالب الفلسطينية بحزمة استثمارات محتملة بمجموع 50 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبل، وهذا يجعل الفسلطينيين في وضع من "يشتري الحوت في البحر."

ما تقييمك للموقف المغربي؟

موقف المغرب ينمّ عن تريث دبلوماسي مدروس وعدم المجازفة سواء بالتّرحيب أو الرفض أو التشكيك في الحمولة السياسية والجغرافية للصفقة. كان ردّ وزير الخارجية ناصر بوريطة بمثابة إعلان "نصف موقف" لدى المغرب الذي يحاول مسك العصا من الوسط بين عدم تبخيس دور الرئيس ترمب من جهة وعدم التفريط في قناعته بشرعية المطالب الفلسطينية من جهة أخرى، ودون التسبب في انتقاد مدى التزامه بالقضية الفلسطينية، وهو فوق كل اعتبار صاحب رأسمال سياسي مفيد عربيا وإسلاميا باعتبار الملك رئيس لجنة القدس.

وتنمّ عبارة السيد بوريْطة "تقدر المملكة الجهود البناءة التي تبذلها الإدارة الحالية للتوصل إلى حل عادل، دائم وعادل لهذا الصراع" عن محاولة لبقة لكي "يبقى ترمب على خاطره" من حيث أنه راعي مسار صفقة القرن، ودون إضفاء أيّ حكم قيمة على مضمونها أو مدى جدّيتها في الدفع باتجاه الحل أو تقويض المطالب والتوقعات الفسلطينية.

باختصار، يجد المغرب نفسه ضمن مجموعة الدول التي تودّ أن تدفع رياح سفينة الصفقة الترمبية بعيدا عن شواطئها، وهو خيار الحياد بحكم الواقع. في المقابل، تستمر التلاسنات غير المباشرة بين محور البيع والترويج للصفقة، والذي تقوده الإمارات بمعية البحرين وعُمان واحتشام السعودية ومصر، ومحور الممانعة وفي مقدمته الأردن والسلطة الفسلطينية وتونس.