نافذة ثقافية.. المدرسة الذرية: للفلسفة "ميكروسكوب" اسمه العين المجردة

هادي معزوز

يعتقد العديد من الدارسين للفلسفة أن عراب المدرسة الذرية هو ديمقريطس، وفي هذا الأمر تجاوز لمؤسسها الأول لوسبيوس خلال القرن الخامس قبل الميلاد، إلا أن القضية التي توجبت الإشارة إليها بعد علاقة المعلم لوسبيوس وتلميذه ديمقريطس، هي أن المدرسة الذرية اعتبرت من بين أولى المدارس المادية، فما هي المبادئ التي اعتمدتها؟ ولماذا سميت بهذا الإسم؟ وكيف سيكون تأثيرها على الفيزياء؟

على غرار الفلاسفة قبل سقراط، ترك ديمقريطس إرثا مهما إلا أن أغلبه ضاع حيث لم يصل إلينا سوى 300 شذرة قصيرة، إلا أنها تتميز بالكثافة واضعة إيانا طبعا أمام صرح أم النزعات المادية أنئذ. يرى ديمقريطس أن الواقع في مجموعه يتأرجح بين مبدأين وهما الوجود المملوء واللاوجود الفارغ.

والحال أن حقيقة الوجود لا تحتاج إلى برهان طويل لإثباتها، بقدر ما أنها تكتفي فقط بالرؤية، أي أن الوجود يدرك ليس كفكرة وإنما كمادة نراها في كل آن وحين، لكن وفي مقابل ذلك فإن الوجود المملوء هو في حاجة إلى الوجود الفارغ كي يضمن لنفسه الحركة وإلا فإنه لن يكتسب صفة الوجود، وتبعا لذلك فإن شرط إدراك المادة رهين بغيابها في الفضاء الفارغ.

عندما سنتأمل في هذا القول الذي أكده ديمقريطس سنجد فيه جوابا مباشرا على برمنيدس الذي ميز كما رأينا سلفا بين الوجود واللاوجود، مؤكدا حضور الأول وانعدام الثاني، لكن وعلى عكس ذلك سنجد مع ديمقريطس أنفسنا أمام معادلة أخرى تقول أن اللاوجود بدوره موجودا le non-être est. لكنه موجود كفراغ في الفضاء، بل إن لا وجوده هو الضامن الأول لحركة الموجود المادي، وتبعا لذلك سيعدو الوجود مادة ملموسة وليس فكرة ذات أثر في العالم.

لقد رأى ديمقريطس أن المدرسة الإيلية وقعت في خطأ جسيم عندما نفت طابع الوجود على اللاوجود أو الفراغ بلغة المدرسة الذرية، صحيح أنهم يلتقون حول فكرة تميز الوجود بالثبات والوحدة والأزلية، إلا أن عيب برمنيدس ومن معه يكمن في عجزهم عن فهم الفراغ والقذف به نحو خانة هذا المعدوم الذي لا يمكن إدراكه لأنه معدوم.

لقد توجس برمنيدس دوما من التغيير وذلك ضمانا لمبدأ السكون على العالم، مرجعا كل حركة إلى خداع للحواس ليس إلا. سيتلقف ديمقريطس هذا الطرح كي يقول لنا إن التغير من صلب الوجود لأننا نراه يحدث دوما، ولذا فهو من الحقيقة بمكان، ولما كان شرط حدوث التغير هو وجود الفراغ مادام كل تغير حركة، فإن القول بوجود الفراغ أي الوجود المعدوم هو قول صحيح ولا مجال لإنكاره بقوة الواقع.

وجه الذريون سهام نقدهم أيضا إلى تلميذ برمنيدس زينون الإيلي. لقد سبق وأن رأينا مع هذا الأخير أن الأشياء تنقسم تباعا دون توقف، فهي إذن لامتناهية في الكبر كما الصغر، إلا أن الوجود هو الذي يتميز بكونه لانهائيا، وإلا لاشتركت كل الأشياء مع الوجود في هذا الصفة، الأمر الذي سيبطل فيه الفرادة وهو مبدأ غير ممكن في كل حال من الأحوال، ومن ثمة يرى ديمقريطس أن الأشياء مهما اعتقدنا بكونها لانهائية على مستوى الكم طبعا، فإنها يجب بقوة الواقع الذي يحتويها أن تصل إلى نهاية ما عندما نقوم بفعل التقسيم، وهذه النهاية هي ما سيطلق عليها الذريون اسم الجزء الذي لا يتجزأ أو الذرات التي لا يمكن أن تضمن لنفسها الحركة لولا وجود الفراغ.

لقد أعطى الذريون تصورا خاصا بهم لشكل الذرة وتفاعلاتها، فأقروا أولا أن الذرات تختلف فيما بينها حسب طبيعة المادة وشكلها وقوتها، والحال أن هذا الاختلاف يمكن وسمه بكون من الصفات الرئيسية للذرة، في حين أن الصفات الثانوية لا تخرج عن إطار تمثلاتنا وانفعالاتنا حولنا، وهي انفعالات تتحكم فيها عوامل خارجية عن الذرة من قبيل الكثافة واللون والوزن والمسافة.

فما أراه طويلا قد يراه الآخر قصيرا، وما يمكن أن أحكم عليه بالثقل قد يحكم عليه الآخر بالخفة، نفس الشيء مع السرعة والبطء أو البرودة والسخونة.. وفي هذا تمهيد للحكمة السفسطائية الشهيرة: "الإنسان مقياس كل شيء" كما أنها قاعدة تحمل بين طياتها روح الفلسفة الفينومينولوجية التي سنتطرق إليها لاحقا.

اختلف الذريون مع باقي الفلاسفة بخصوص ارتباط العالم بالعناصر، ومن المعلوم أن أغلب الفلاسفة بنوا تصورهم حول أصل الوجود انطلاقا من العناصر الخمسة للطبيعة، لكن وعلى النقيض من ذلك، كان للمدرسة الذرية شأوا جديدا بخصوص هذا القول، حيث أثبتوا أن العناصر لامتناهية مادام أن الذرات لا متناهية على مستوى العدد، إلا ان هذا الاختلاف لا يقتصر على ما سبق ذكره، وإنما يرتبط أيضا باختلاف في المقدار والشكل والوضع ناهيك عن التفاعلات البينية، أي بين ذرة وأخرى.

إذا تأملنا مطولا في مبادئ الفلسفة الذرية، سنجدها قريبة من الفيزياء بلغة عصرنا، حيث كان لهم رأيا يجب أن نشير إليه، وفي هذا الصدد يرى الذريون أن الكون لامتناه وليس متناه كما يعتقد البعض وتحديدا مع المدرسة الإيلية، القول بلانهائية الكون نفي للانهائية الفراغ، لأن الفراغ لا يمكن أن يوجد الوجود مادام أن الإيجاد ليس من عندياته، والحال أن الذريون يرون أن الكون يتكون عن طريق التفاعل بين الذرات وهو تفاعل يأخذ أوجها عدة بحسب بنية كل ذرة مع باقي الذرات، إذ يحدث ان تصطدم فيما بينها فتنشأ عنها حركات دائرية على شكل دوامة الامر الذي يؤدي إلى انبثاق الوجود وتكون العالم شيئا فشيئا.

بل إن الموجودات تختلف ذراتها من كائن لآخر، أما إذا ذهبنا ابعد من ذلك نقول أن هناك تراتبية في أعذاء الإنسان، والحق ان مردها على اختلاف الذرات المكونة لها، فذرات العقل مثلا أرقى من ذرات القلب، وهذا ما يفسر الفكرة التي تقول أن العقل ينحو غالبا نحو الدقة والتريث بينما يتميز القلب بالتسرع وتغليب الأهواء.