المفكر المغربي حدجامي: المدرسة تم ضربها في العمق ولا يمكن أن تنتظر شيئا من أمة تم تجويعها وتجهيلها

المفكر المغربي والأستاذ عادل حدجامي
تيل كيل عربي

في هذا الحوار يتحدث المفكر المغربي والأستاذ عادل حدجامي عن واقع الفكر الفلسفي بالمغرب، واضعا الأصبع على أهم الأسباب والمسببات التي جعلته منعزلا ومنحصرا على أهل الاختصاص فقط، كما يُشَرّحُ أيضا بلغة الفيلسوف العارف بقضايا الحاضر، بنيات المجتمع المغربي المعاصر التي أوصلته إلى ما هو عليه اليوم... وكيف أنها جاءت وتكونت نتيجة لظروف وشروط بعينها...

حاوره: هادي معزوز

*أكدت في العديد من مواقفك أن الفلسفة ليست مجرد جمع واستظهار للأفكار والآراء فقط، بقدر ما أنها نمط عيش يتجسد في اليومي؟ ألا ترى أن اليومي قد يشكل عائقا أمام فعل التفلسف؟

نحن هنا أمام اختيارين لا أحد منهما بصحيح، أو على الأقل لا أحد منهما بصحيح كلية، الأول هو اعتبار الفلسفة معرفة نظرية خالصة، والثاني هو تحويلها إلى شيء أسميته في سؤالك باليومي، أي ما يسمى اليوم بالفلسفة للحياة أو الفلسفة للدواء أو العلاج أو ما إلى ذلك.

في اعتقادي المتواضع جدا، الفكر هو شيء من هذين دون أن يكون أيا منهما، الفلسفة أولا معرفة، هذا لا شك فيه، هناك تراث فلسفي قوامه نصوص، أسماء، مفاهيم... تعود إلى قرون خلت، والفلسفة هي ممارسة فكرية عمرها على الأقل 25 قرنا. وهناك مكتبات فلسفية بجميع اللغات تضم عشرات آلاف الكتب، أكيد أنه لا يمكن أن ينتمي إلى الفلسفة من لم يحقق دربة ومعرفة بهذا التراث، أيضا الفلسفة هي منهج، بل إن القدامى كانوا يصفونها بأنها"صنعة"، فلا يكون فيلسوفا من لم يتقن حرفة التعامل مع المفاهيم، أو على الأقل من لم يتمكن من المعجم الفلسفي، فمن لا يعرف مثلا الفرق بين الماهية والجوهر أكيد أنه لن يعد بجد في عداد الفلاسفة، لكن هذا لا يعني أنه يمكننا أن نختزل الفلسفة إلى مجرد هذا.

لماذا؟ لسبب وجيه جدا، وهو ما يفتأ يزداد وداهة، ففي العالم المعاصر لم تعد للمعرفة بالمعنى الكمي والمضموني من قيمة كبرى، فالمعلومات مبتوتة على الشبكة وفي الموسوعات، والمعارف ملقاة في الطريق، لهذا فالمعرفة كانت تملأ مجمل الفلسفة ربما في فترة كان الناس فيها يضربون أكباد الإبل من بلد لبلد حتى يحصّلوا معلومة، لكن الآن مع الطرق السيارة للمعرفة لم تعد المضامين شيئا عزيزا ونادرا.

الفلسفة أقرب إلى هذا، أي هي دربة ومعرفة ليس فيها فائض معرفة كمي/قبلي. لكن هذا لا يعني كما قلت سابقا، إن كانت الفلسفة هذه الحرفة أو هذا الوعي بكيف نفكر، وليس بكيف نحفظ الأفكار، ستتحول إلى بعض ما نراه اليوم من الدعوات التي تذهب للقول إن الفلسفة لا علاقة بالمعرفة، إنها فقط كيف في العيش، إذ لا يمكن أن تكون فيلسوفا أو مشتغلا في الفلسفة دون قناعات وجودية واضحة، ودون قناعات قيمية واضحة، ودون أن تتجسد إلى حد ما، ولو فكريا، فالفلسفة لا تتعلم بكتب ال"كوتشينغ" كأن يقول أحدهم ولو على سبيل الكوميديا: قليل من ألتوسير، وقليل من ماركس وقليل من اسبينوزا، ثم اخلط هذا مع قليل من ذاك كي تحصل على السعادة، أو يقول آخر: "التداوي بالفلسفة"، قياسا ربما على "التداوي بالأعشاب"، إذ أن الفلسفة تبدأ حين نفهم ابتداء ألا وجود لوصفة قبلية لأي شيء، وأن العالم أسئلة وليست أجوبة بالوصفات لهذا فالحديث عن "الفلسفة الحيوية"، وما صرنا نسمعه من مثل "الفلسفة في الزنقة" وما إليه في نظري، نوع من الدعوة لاستبدال البحث والقراءة بالكلام والدردشة.

*ماذا عن الخطاب الفلسفي حول الفضاء العمومي ورهاناته في بلد لازال أغلب مواطنيه يمجدون التفاهة والمبتذل، ويعملون إن بوعي منهم أو بغير وعي على المحافظة على العشوائية حتى في أبسط الأشياء كعبور الشارع مثلا؟

لا ينبغي أن نسقط في فخ محاكمة المجتمع، بقيم أخلاقية أو بشيء أقوى من وعيه، إذ أن ما يحصل في المجتمع من مظاهر العنف والفساد والقبح، يحصل لأن هناك من الأسباب الموضوعية ما يكفي لكي يكون كذلك، فلا يمكن أن تنتظر من أمة تم تجويعها وتجهيلها أو تم الاعتداء عليها وذبح رصيدها الرمزي، وتحويل المواطن فيها إلى كائن استهلاكي حدود وعيه هي حدود قوته اليومي، لا تنتظر منه أن يكون سلوكه غير هذا الذي نراه، لأنه إذا اجتمعت كل الشروط لا بد أن تؤدي إلى نفس النتائج، بالتالي لا أريد أن أحاكم المجتمع، ولا أعتقد أنه من السليم فكريا أن نذهب إلى خطاب المحاكمة وخطاب الأخلاق.

هذا له أسبابه المعلومة، فالمدرسة تم ضربها في العمق، حتى صار الناس يهربون للتعليم الخاص لا لتحصيل تعليم قوي لأبنائهم، بل فقط لضمان أمنهم وأقسام مقبولة ومراحيض، لأن هذه الأساسيات صارت اليوم امتيازا، الإعلام كذلك تم الإجهاز عليه، خصوصا مع خوصصته، فلا شيء في التلفاز والإذاعة ما عدا الإشهار وبرامج كرة القدم والطبخ. حتى أنه لم يعد من جامع في الحوارات بين الناس اليوم، في المقاهي والأسواق، غير كرة القدم، أما السياسة والثقافة، فأهلها ومن تحادثهم فيها صاروا أندر من التبر.

*(مقاطعا): لكن هناك بعض الشعوب خرجت من رحم المعاناة، ورغم ذلك تمكنت من أن تبني لنفسها مجتمعا فاعلا، كيف تنظر غلى ذلك؟

اجتمعت أسباب بعينها، إما إرادة سياسية واضحة، أو رصيد تاريخي قيمي معين، فتاريخ الشعب الكوري مثلا ( وهو من الأمثلة التي تستحضر دائما)، ليس هو تاريخ الشعب المغربي، والتاريخ السياسي لكوريا المعاصرة ليس هو تاريخ المغرب، لكل تاريخه، والتاريخ له حكمه الذي لا يخطئ، سيكون لو كان المغرب هو كوريا، ولكن "لو" هذه ليست من الفلسفة في شيء، إنها شيء من باب التمني والحسرة ربما. الذي أريد أن أشير إليه هنا، هو أنه من المطلوب تشجيع الخطاب التنويري ومن المستحسن دعم الخطاب التوعوي وربط العمومي بالخاص.

*هل تجد كتابات المفكرين المغاربة صدى لها على مستوى الساحة العلمية؟

الأمر رهين بما نقصده بالساحة العلمية، هناك مفكرون مغاربة اشتغلوا ويشتغلون، منذ الاستقلال إلى اليوم، هناك أعلام منهم المعروف والمغمور بلا شك، أشخاص قاوموا بمجهودات شخصية وعصامية وقلة ذات اليد.

*(مقاطعا) مثل من؟

العديد من الناس لا يعرفون مثلا أن الجابري كان معلما بالابتدائي، ورجلا من المغرب العميق، ثم جاء إلى الرباط والدار البيضاء واشتغل كمساعد في جريدة العلم على ما أعتقد، وقاوم ودرس نفسه بنفسه، فيما بعد وجدناه أحد أعلام الفكر المغربي والعربي، وكتبه مترجمة لعشرات اللغات، وهذا مثال فقط من عشرات الأمثلة، جل أساتذتنا الكبار ممن درسنا هم أبناء أوساط شعبية، لكنهم صنعوا تميزا للفكر والثقافة المغربية، هذا ما يمكن أن نقوله، أما الأثر في الساحة العلمية فهذا شيء لا يتعلق بجهد المفكر نفسه، فما يستطيع أن يقوم به المفكر هو أن يكتب كتابا ويقول رأيا، لكن هو غير مسؤول عمن سيقرأ هذا الكتاب وماذا سيُفعل به. الخطأ الذي نرتكبه هو أن الناس، ومنهم بعض المثقفين، يفترضون أن للثقافة والفكر سلطة كبيرة، في حين أن السلطة الحقيقية اليوم هي في يد الاقتصاد والإعلام، وهي ما تفتأ تزداد مع انحسار مكانة النص والثقافة العالمة.

*ما لا يعرفه العديد عن الأستاذ عادل حدجامي، هو أنه متذوق للشعر مستشهد به، ما السر وراء ذلك؟

القدامى كانوا يقولون عن الشعر القديم إنه أصح ما يثبت من علوم من تقدم، خصوصا الشعر العربي، لأنه ليسا شعرا فقط، ولكنه تجربة أمة كلها قيلت شعرا.

فعندما تقرأ المعري أنت لا تقرأ شاعرا، بل أنت تقرأ لرجل يودع تجربة حية لأمة، في اللزوميات مثلا، وما خلفه المتنبي ليس مجرد شعر، بل هو يكاد يكون حكمة وفلسفة العرب في عصره أودعت شعرا، وهذا الأمر يمكن أن نسحبه على أمور أخرى من مثل ما خلفه زهير وطرفة من شعر "قيمي" في قصائدهم. لهذا فبيان قضية الموت مثلا وكيف تصورها الإنسان العربي القديم "فلسفيا" لن نجده في "نصوص" نثرية كما عند اليونان مثلا، بل سنجده شعرا في قصيدة مالك بن الريب وقبله عبد يغوث بن صلاءة مثلا، وكذلك الأمر في مسألة العقائد والأخلاق وغيرها.

أما عني أنا شخصيا  فأنا متعلق بالشعر، والقديم منه خصوصا، لسبب لم أختره، وهو أني نشأت في الصحراء وكبرت في الصحراء، في وادي الذهب وشطوط ما بين نواذيبو والداخلة في ثمانينيات القرن الماضي، والصحراء هي أصل الشعر ومنبعه، وكنت أرافق أناسا من أعرف الناس باللغة والعروض والنحو، وأحضر المحاضر في البوادي وأعاشر الرحل، وأرى الفتيان والكهول يتنافسون في استظهار شعر الأعشى وعلقمة والسموأل، ويتحاكون بيوم ذيقارودارة جلجل والنجيع، ويذكرون أخبار بسطام بن قيس والمهلهل والحارث بن عباد، وكنت أشاركهم وأستظهر وأحفظ ما استطعت معهم. ورغم أن هذا يبدو اليوم شيئا متروكا وقديما، فإني ينبغي أن أعترف أنه كان له فضل كبير جدا علي، على الأقل في علاقتي باللغة وما أعرفه من التراث وأحفظه.  أما بخصوص المعاصرين فالاهتمام أقل، لأن البحث عن الشعراء الجيدين، صار أصعب من البحث عن بيض العنقاء.

*اعترف الأستاذ محمد سبيلا في أحد الحوارات الصحفية مؤخرا، بأنكم تشكلون بمعية باحثين آخرين، جيلا متميزا سيبصم اسمه لا محالة في تاريخ الفكر المغربي، ألا ترى في هذا الاعتراف تكليفا وثقلا جاثما أكثر مما هو تشريف؟

هذا من حسن ظن الأستاذ محمد سبيلا بنا ليس إلا، وهذا ليس أول عهده بالإحسان إلينا، بل هو أمر لاقيناه عنده دائما، تدريسا ورفقة، وهو أمر لاقيناه أيضا عند أساتذة آخرين كالأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، والسبب عندي أن هؤلاء أناس يجسدون ما قلته في جواب سابق، كونهم يمثلون رموز العصامية والمكابدة، لهذا فأنا لا أملك أمام هذا القول أن أعتز به، وبعدها أن أصمت، فذم الذات في الظاهر كثير ما يكون مدحا لها في الباطن.