تجربة فريدة.. السجناء يلقنون الإعلاميين دروسا قاسية في أخلاقية المهنة

المختار عماري

"سأحكي لكم تجرتي الخاصة. حدث ذلك بسبب برنامج (مسرح الجريمة). قام معدو البرنامج بتحويل مأساتي التي أقضي بسببها عقوبة سجنية طويلة جدا إلى فرجة بئيسة جعلت عقوبتي مضاعفة. أذاعوا البرنامج الذي أساء إلي، وهو يحكي ملابسات قضيتي ليلة عيد الأضحى، فحولوا تلك المناسبة إلى مأساة داخل أسرتي، وإلى فجيعة بالنسبة لي، وأنا بين جدران السجن. ولم يكتفوا بذلك، بل أعادوا بث برنامجهم مرات ومرات، فكانوا ينكؤون جراحي وجراح أسرتي في كل مرة".

شهادة صادمة ألقها اليوم سجين، قطع طريقا طويلا من أجل إعادة الإدماج، وانتقل من الغلو إلى الاعتدال، ومن الجهل إلى تحصيل أعلى الشهادات، على مسامع إعلاميين وجامعيين وقانونيين ورجال أمن مشدوهين، حجوا بالعشرات للمشاركة في الدورة الرابعة للجامعة الربيعية، التي تنظمها المندوبية العامة لإدراة السجون وإعادة الإدماج، يومي الأربعاء والخميس، 28 و29 مارس، بسجن الأوداية بمدينة مراكش.

وقبل أن يخف وقع تلك الكلمات القوية، تأتي شهادة ثانية، من سجين آخر مكلوم، قال فيها: "أنا سجين.. لا حول لي ولاقوة.. ولا أستطيع المشاركة في برنامج إذاعي لأدافع عن نفسي، ولا أملك في زنزانتي هاتفا يمكنني من الاتصال بالإذاعة التي أساءت إلي، ولا أن ألج مواقع التواصل الاجتماعي، لكي أصرخ في الملايين من مرتاديها أن الحقيقة هي على خلاف ما قيل عني. فقد قامت إذاعة خاصة بنشر قصتي على لسان سيدة تنثر الإشاعات والأكاذيب، وذكرتني بالاسم، وبالصفة المهنية، وزاد مقدم البرنامج الطين بلة عندما أضاف بهارات ليجعل القصة مؤثرة على مسامع المتابعين، دون أن يعرفني، أو أن يعرف قضيتي،أو أن يكلف نفسه عناء البحث والتقصي. واستمرت الإذاعة التي تملك حصة كبيرة من الانتشار والذيوع، في إعادة البرنامج، دون أن يرف لأصحابها جفن".

"لي طلب واحد"، يقول سجين ثالث مخاطبا رشيد الوالي الذي جاء ليشارك في الجامعة الربيعية بفلمه "قليل من ضوء القمر"، قبل أن يستطرد" أنا محكوم بالإعدام، قضيت إلى الآن 27 سنة وراء القضبان، كانت حافلة بالتدريس، ولدي طلب واحد، أن تنتجوا فيلما طويلا، يقدم صورة صحيحة عن السجناء، عن مسارهم الطويل من أجل مراجعة أنفسهم، عن محاسبة النفس على أخطائها كل يوم، عن تنمية شخصياتهم في محيط لايخلو من عوائق، عن سعيهم الحثيث من أجل إعادة إدماج أنفسهم في المجتمع، والتهيؤ لذلك بكل السبل والوسائل".

ومن أمثلة ما يبدله السجناء لتغيير حياتهم  مارواه سجين مسن باللغة الفرنسية "الرحمة، أسألكم الرحمة. قضيت 12 عاما من أصل 15 عاما حكم علي بها. أنا طبيب أشتغل في المغرب وخارجه. خلال المدة التي قضيتها في السجن، حصلت على ثلاث شهادات بكالوريا، وعلى إجازتين، وأملي أن أعانق الحرية قبل انصرام الثلاث السنوات المتبقية من عقوبتي. لدي ابنتين تزوجتا دون أن أحضر زفافهما، وصرت جدا. ماتت والدتي في سنة 2012، ولم أشيع جثمانها، ومات شقيقاي ولم أودعهما، ووالدي يبلغ من العمر 90 عاما، ولا أدري هل سأراه قبل رحيله أم لا. بعث الكثير من رسائل الاستعطاف، وأنا مستمر في الكتابة، من أجل أن أسألكم الرحمة، فأنا أتألم في صمت".

42 من السجناء المغاربة، ومن بينهم أصحاب الشهادات العليا، يتابعون دراساتهم بمختلف كليات جامعة القاضي عياض وحدها، والتي احتلت صدارة ترتيب الجامعات المغربية والمغاربية وجامعات الدول الإفريقية الفرنكوفونية، حسب التصنيف الأخير لأفضل الجامعات على المستوى الإفريقي والعربي الذي أصدرته المجلة الدولية "تايمز هاير اديكاسيون".

خلال يوم كامل، أي اليوم 28 مارس، كان الإعلاميون على موعد مع درس قاس في أخلاقيات المهنة، لقنها لهم سجناء دخلوا مراكز الاعتقال أميين وهم الآن "ناس غير الناس". عندما يتحدثون يستشهدون بدوستويفسكي، وفيكتور هيغو، وريجيس دوبري. وعندما يسمعون عزف الحاج يونس على العود، يطربون ويتراقصون ويطلبون المزيد. وعندما يسمعون المغني يغني "إن كنت هويت ونستني.. وعلي جنيت ومارعتني.. أنا لي إله يعرفني"، يرددونها على ظهر قلب، باحترام كامل للحنها وإيقاعها، لكنهم عندما يغادرون السجون محملين بالشهادات العليا، ونظرة جديدة لأنفسهم وللمجتمع، يصطدمون وهم يبحثون عن شغل يسد رمقهم بعبارة مسكوكة وجاهزة "انت مدوز الحبس.. ماعندي ماندير ليك".

لتصحيح صورة المؤسسة السجنية، ومعها صورة السجين، الرائجة في وسائل الإعلام، والتي تقدم وصفا "بكيفية مشبعة بالغلو والإثارة" كما قال المندوب السامي لإدارة السجون وإعادة والإدماج، وهو يفتتح الأيام الربيعية، وقعت المندوبية والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، مذكرة تفاهم من أجل صياغة ميثاق سيكون من أبرز مرتكزاته،  الاستحضار الدائم لقرينة البراءة، ومرافقة متعهدي الإعلام من أجل صورة إيجابية عن المؤسسة السجنية.