حكيم بلعباس: لا أستطيع أن أقدم للناس سينما لا تليق بتطلعاتهم

حكيم بلعباس / خاص
غسان الكشوري

على هامش الدورة 22 من مهرجان سينما المؤلف، المقام بمدينة الرباط، التقت "تليكيل عربي" المخرج السينمائي حكيم بلعباس، المهووس بالذاكرة وبمدينة "بجعد". مخرج أفلام؛ "خيط الروح"، "أشلاء"، "محاولة فاشلة لتعريف الحب"، "عرق الشتا"، بالإضافة لأفلام وثائقية، أعرب في هذا الحوار عن فلسفته في الإخراج، وعن إيمانه بالممكن في صناعة السينما.

كيف تتجسد فكرة الايمان في سينما حكيم بلعباس ؟

الاصل في هذه الفكرة، مرتبط بالقضاء والقدر. التيمة الأساسية في أفلامي هي علاقة الانسان بقدره، إذ لا يمكن أن نحدد تاريخ الالتقاء بالأشخاص أحيانا. وهو ما أطرحه على نفسي حول سبب علاقتي بالرجوع إلى اصلي بمدينة "بجعد". وقد كنت في وقت سابق أقول إنني أحتاج أن أمسك بأحد الطرفين في الفكرة، لكن الآن لم يعد مهما.

الانسان في نظري بقدر ما هو مسير، بقدر ما هو مخير. وحتى في السينما نقع في مثل هاته الاختيارات. فليس المهم أن أختار بين ما هو أبيض أو أسود، يكفي فقط أن أصنع السينما في المنطقة الرمادية. وهنا يكمن الإبداع، حيث لا توجد تحديدات أو تصنيفات سينمائية، كسينما المؤلف مثلا أو التجريبية أو الوثائقية.. كل هذه التوصيفات متجاوزة عندي.

لماذا تحاول التعبير عن العادات والتقاليد المغربية في أفلامك بطريقة أنثروبولوجية ؟

ما أحاول أن أقوم به هو أن أتجنب فكرة الرمزية في صناعة الأفلام، فمثلا الحصان أو الحناء أو بركة الرجل الشيخ في فيلم "عرق الشتا".. كلها "رموز" قد تفهم بشكل قدحي أو سلبي. لذلك أفضل استبدال كلمة الرموز بالطقوس أو الشعائر. هذه الطقوسية في السينما تهدي نفسها للصورة البلاغية، وهو جانب أساسي في السينما. وإذا لم تكن الصورة البلاغية في أي فيلم، يجب أن تكون في أي لقطة، سواء كان فيلما قصيرا أو طويلا.

عندما علمت أن فيلمي الوثائقي "تعابير في الحب"، عرض قبل أسبوع في التلفزيون وشاهده مليونا متفرج، وضعت نفسي بين الاختيار، بين أن أتجه نحو صناعة الأفلام التلفزيونية التي يشاهدها الملايين، أو إلى القاعات السينمائية التي يرتادها عدد قليل. لكن ما أفضله هو ذلك الخروج من البيت والاتجاه إلى القاعات، فهذا الفعل هو ما أعتبره طقسا أو طقوسية، لأنها تعبر عن وعي جماعي، تتم مشاركته داخل فضاء مشترك (قاعة)، وأمام صورة واحدة.

هل من الضروري أن نجد في السينما كل ما هو واقعي في الحياة؟

ما هو واقعي وما هو حقيقي ليس لهما نفس التعريف. أغلب الأفلام في هوليود وغيرها تكتب في ملصقات أفلامها أو في بدايتها، عبارة "هذا الفيلم مقتبس عن قصة حقيقية". لا أستطيع في أفلامي أن أعطي للناس عبارة لا تكون بقدر تطلعاتهم للفيلم. وربما قد أحسب في خانة الذين يستغلون القصص الحقيقية. كتابة مثل تلك العبارات هي مجرد معلومة.

لا أستطيع في أفلامي أن أعطي للناس عبارة لا تكون بقدر تطلعاتهم للفيلم.

الواقعية في الأفلام تختلف في طريقة معالجتها سينمائيا. فمثلا "فلان خرج من المنزل" تبدو عادية وواقعية، لكن أن تجعل ذلك إبداعا، يكمن في تصوير كيفية خروجه. وبالتالي فـ"كيف خرج فلان" أهم في السينما من "خرج فلان". الجميل في السينما هو ذلك التأطير (Cadrage) الذي يختزل اللقطة الحاملة للحياة. والالتقاء بين اللقطات التي قبلها أو بعدها، هو الذي يحدد المعنى ويرتقي بها لدرجة الإبداع.

في حياتنا الواقعية نرى بأعيننا تقريبا 180 درجة، لكننا نختار المجال البصري أمامنا. الواقع يتحدد بالطريقة التي نصقله بها لتقديمه إلى الناس.

كيف تقيّم وجود السينما في واقعنا، وحضور المخرج خارج ذلك الإطار، أي تأثيره في الواقع ؟

هي معادلة مشعبة ومن الصعب حلها. أحيانا يتبادر لي أني مقصر في حق نفسي وفي السينما. لكن الهاجس الذي يتملكني هو أن أتعدى تلك الأنا، التي تجعل الناس تترتقبي عند مروري أو حلولي بالمهرجانات أو في الشارع. أنا أنطلق من فكرة أن الذي يبدع ويتقاسم عدة أشياء مع الناس، تكمن في دواخله حاجة ورغبة دفينة.

لكي أقول أنا أحكي إذن أنا موجود، لا يهم أن يعرفني الناس، بل المهم أن يشاهدوا أفلامي وكل الأفلام، وأن أتقاسم معهم المشتركات. يبلغ هذا الأمر مداه عندما تؤثر إحدى شخصيات أفلامي على المشاهد، فيحاول مساعدتها بعد انتهاء الفيلم. وهنا نجد أننا انتقلنا من الإطار إلى الواقع، رجوعا إلى سؤال الواقعية.

في معظم أفلامي أحافظ على بعض اللقطات التي يظن البعض أنها لا تقول شيئا، لكن تلك المشاهد التي لم تقع فيها أحداث هي التي وقع فيها كل شيء، وهي التي أتقاسم فيها مع المتلقي جوهر المعنى. ومثل هاته الأشياء تتم بطريقة لا مفكر فيها في صناعة السينما.

يلاحظ في أفلامك غياب البطولة، التي تتوزع وتتقاسمها شخصيات الفيلم. لماذا هذا الاختيار ؟

هذا نقاش حاد دار بيني وبين المنتج حول أهمية البطل، كما حصل مثلا في فيلمي الأخير "عرق الشتا". أحاول في أفلامي أن أتجنب تعريف بطل الرواية (protagoniste) وغريمه (antagoniste). بمعنى أنه يوجد الخير والشر، ومن يمثل الجانب الخير أو الشراني. وذلك الصراع بينهما هو ما يصنع الدراما، وأن الخير ينتصر أخيرا.. الخ. أرى عكس ذلك تماما، فالكل في نظري هو "بطل" (protagoniste). وحتى ذلك الذي ننعته بالشرير في الأدوار، يحمل جانبا من الخير.

الكل في نظري هو "بطل" ، حتى ذلك الذي ننعته بالشرير في الأدوار، يحمل جانبا من الخير.

دائما أتساءل أين أجد الجانب الانساني حتى في توزيع الأدوار. ولهذا تصبح الشخصيات في أفلامي ثلاثية الأبعاد، والرابع يبقى لدى المتلقي. هذه النظرية تعلمتها من كتاب قرأته للأمريكي (E.M.Foster) في كتابه "مظاهر الرواية" (Aspects of the Novel)، حيث يشرح فيه الشخصيات ذات الأبعاد، والشخصية ذات البعد الواحد. هذه الأخيرة قد نجدها في شخصيات الأفلام التلفزيونة.

في فيلمي "عرق الشتا" مثلا نجد شخصية الفيلم "مبارك"، الفلاح البسيط الذي له مشاكل في قرضه مع البنك، ويريد أن يكافح لتسديده، هذا بعدها الإنساني الواحد. لكن هذه الشخصية تظهر أبعادها الأخرى في علاقته مع ابنه المصاب بمتلازمة "داون".. إلى غير ذلك من الأمثلة.

لماذا تعتمد الارتجالية في صناعة الافلام ؟

الأص التاريخي للارتجال في اللغة وعند العرب، هو ترجل الشعراء من على جيادهم من أجل التلاسن والمجابهة بالشعر. تلك القوافي والأبيات جاءت بعد حفظ الآلاف من الأبيات الشعرية. وفي لحظة المواجهة يحتاج الشاعر إلى نسيان كل ما حفظ، وعليه أن يحاول تأليف أبيات أخرى لا يعرفها الآخرون. الإبداع يمكن في هذه الأثناء عندما يحمى الوطيس وتشتد العبارات، فيبادر كل منهما إلى إخراج ما في جعبته.

الجميل والأساسي هنا هو أن يكون لك مخزون وذاكرة للارتكاز عليها لصناعة السينما، وهي اللحظة التي أعشقها عندما أكون بصدد كتابة فيلم ما، حيث أضع الأفكار وأدون الفيلم على شكل رؤوس أقلام أو في سطور عديدة. لكن في لحظة الإخراج أو التصوير وكذا المونتاج، أحاول أن "أترجل من الحصان"، وأؤلف سينما جديدة (أبياتا شعرية). تلك هي الشاعرية في السينما.

هل الدعم السينمائي يراعي هذا الارتجال قبل إنتاج الأفلام ؟

المشكل في المغرب أن من يقوم بدعم السينما قبل مرحلة الانتاج، يرى الأفلام مكتوبة بطريقة بسيطة، أو على شكل سيناريو وقصة عادية جدا. لكنهم ينسون أن مراحل الإخراج هي تلك اللحظات الإبداعية التي تصنع لنا سينما حقيقية. وخير مثال يمكن أن نضربه هنا هو فيلم عباس كياروستامي في فيلمه "أين منزل صديقي"؛ الفكرة لو رأيتها مكتوبة على الورق، لن تصدق أنها تصلح أن تحول إلى فيلم سيجوب العالم. إن هذا الأمر هو ما ذكرناه سابقا في كون السينما هي "كيف" وليس "ماذا".

كياروستامي التقيته وأثّـر في طريقة اشتغالي، وفي نظرتي إلى الأشياء البسيطة لتحويلها سينمائيا. كما أن قراءة سير المخرجين العباقرة وطيقة اشتغالهم، تجد أنهم كانو على نفس الخطى، وأنك في نفس الوقت يمكن أن تسير على دربهم.

في صناعة السينما أرجع إلى الذاكرة وإلى الطفولة؛ إلى الكف التي صفعتني أول مرة.. إلى الموسيقى الأولى التي سمعتها.. إلى رائحة الأكل الآتية من مطبخ الوالدة وقت الغداء. الطفولة هي البئر الذي أستزيد منه، ولا زلت سأنهل منه.

ما الذي تتخوف منه مستقبلا ؟

ما أتخوف منه هو اندثار القيم الانسانية. القيم التي نؤمن من خلالها بالمبادئ. وهنا أستحضر حادثة الفتاة التي تعرضت لسحل ملابسها داخل حافلة مؤخرا. هذه فاجعة كشفت أننا أصبحنا نسكت عن الانحطاط القيمي أمام أعيننا.

إن التطور والتحول الحاصل في المجتمعات يحمل بعض المحاسن، لكن إذا كان التاريخ لا يعيد نفسه، فإن قافيته تعيد نفسها. والتخوف الذي يعتريني هو أن المدرسة التي كانت تخرج وتعلم المواطن، أصبحت الآن تخرج لنا موظفا، ينتظر حصوله على الشواهد ويتزوج وينجب أطفالا فقط.