حميد المصباحي يقرأ لكم رواية... "الأم"

تيل كيل عربي

في هذه السلسلة نفتح الباب لعدد من عشاق الكتاب ليحدثونا عن الكتاب الذي أثر في حياتهم، أو الذي يعتقدون أنه يمكن أن يكون له الوقع الحسن على عموم القراء. اليوم مع  حميد المصباحي  ورواية "الأم".

في حياة كل شخص، كاتبا كان أو قارئا،هناك كتب شكلت تحولا مهما في حياته، أو اعتبرت منطلقا جديدا في التفكير والوجود، وأنا مدين لرواية الكاتب الروسي مكسيم غوركي بالكثير، لأنها نقلت إلى عوالم جديدة، غير نظرة للحياة والإنسان.

مازلت أتذكر رواية الأم لمكسيم غوركي، في تلك الليلة المطيرة، وأنا أكتشف بها حب الذات للغير،وتفانيها في الذوبان معهم وفيهم من خلال حب الوطن، الذي كان يسمى بلدا، مع هذه الرواية اكتشفت هذه الحقيقة، وأدركت بها ضرورة العدالة كنموذج اجتماعي جديد، يستحق التقدير وحتى التضحية، إنها لحظة انفتاح على فكر مغاير، لطالما حرضنا على كرهه، واعتباره مخالفا للطبيعة الإنسانية، كما كانت تزعم السلفيات، الإسلامية، التي بدأت بها أكتشف هويتي، ككائن بشري، له ميولات دينية، تفرض رفض المختلف عنها والمتمايز عنها.

وكان مكسيم غوركي أديبا روسيا،طبع الأدب الروسي بطابع الواقعية التي اتخذت أبعادها كفعالية فكرية،غائية، لكن حمولتها كانت معبرة عن مبادئ الروائي، فقد اختار التأريخ للحمة الثورة، مخالفا لوكاش الذي اعتبر الرواية ملحمة برجوازية،إذ الأم رغم مسيحيتها الأورثوذوكسية،قبلت بشيوعية ابنها ورفإقه ماداموا يدافعون عن العدالة.

في تلك الليلة،أعجبت بالشخوص الذين يحملون رسالة العدالة ويدافعون عنها، وبالآسرة من خلال الأم كداعم لاختيارات الشباب الذي قرر اختيار نموذج جديد في الحياة والعدالة،أدركت أيضا ما سمي بوظيفة الأدب، وضرورة انحياز الأديب لما يشكل لحظة انتقال حاسم في مجتمعه، وأهمية مشاركة الأدب خصوصا الرواية في معتركات الصراع،انتصارا للحرية والعدالة.

كانت هذه الرواية محطة مهمة في تاريخي الشخصي،بل حددت لي اختيارات ثقافية وفنية وحتى سياسية، حملتها معي كإنسان،وكاتب فيما بعد، بل إن رواية الأم دفعتني للبحث عن مثيلاتها من الروايات، تلك التي تجمع بين التاريخي والأدبي، فتصير المتعة أخلاقية بما هي نضال.

ربما كان الزمن زمن الإيديولوجيات كما يدعي العبض، لكنها كانت حافزا على القراءة، والفاعلية النضالية، لتي خضناها فيما بعد داخل الإتحاد الوطني لطلبة المغرب، وبعدها حركة المعطلين حاملي الشهادات، لتنتهي فيما بعد، بالنتماء لقوى اليسار، وحركة المستقلين الديمقراطيين، وتنتهي لمجال الكتاببات الروائية وما صاحبها من أنشطة فكرية وسياسية.

الأم شكلت مرحلة وموجها لقراءاتي، وبوصلة لاختيارات، قادتني للأدب الروسي، سواء بالفرنسية أو العربية ترجمة، بما عرفه عالمه من تنوع في سياق الأدب الواقعي وحتى السياسي، فكان طبيعيا أن يبدأ النقد حصيلة منطقية من لوكاش وغولدما، فقد كانت المبادئ العامة تبحث عن اتساقها النظري والفكري آنذاك،إذ لا يمكن للفكر أن يتطور بدوم حافز عاطفي، والرواية تفترض حبها لفهمها،فمالا نحب، لانجد فيه متعة مهما حاولنا،وهنا ندرك أهمية الأدب في توجيه الفكر وشحذه، بعيدا عن منطق الحاجة كدافع موجه للمعرفة،أو ما يعرف بالاختصاص، ومنطق الخبراء.

رواية الأم أيضا لي بها علاقة خاصة، فقد تشكلت في ذهني من منطلق القصور الذي عايشت كابن لم يعش الأمومة،بفعل طلاق الوالدة المبكر، ربما ما شدني في البداي كان صدفة غريبة،أردت البحث عما ينقصني،فوجدتها أكثر اتساعا ورحابة.

إنها الوطن بعيون أخرى، تلك التي ترى فيه حقيقة لا تتجسد إلا بتحرره وانعتاقه من مستغليه ،هكذا كانت رواية الأم بالنسبة إلي،مرحلة لها ما بعدها، حياة وانتماء وفكرا وأدبا.