زكية داوود: السلطات المغربية لم تسع إلى فهم الريفيين

زكية داوود (تصوير: ياسين التومي)
حسام حتيم

بفضل مسارها الصحافي الطويل، اكتسبت الكاتبة والصحافية زكية داوود معرفة عميقة بالسياسية والتاريخ المغربيين. وأغنت المكتبة المغربية بعدة مؤلفات قيمة تحاول الإحاطة بمجموعة من الشخصيات السياسية التي طبعت التاريخ الحديث للمغرب، وآخرها كتاب حول عبد الله إبراهيم، الذي ترك بصمة لا تنمحي في مغرب ما بعد الاستقلال. "تيل كيل" أجرت معها هذا الحوار بمناسبة هذا الإصدار الجديد.

بعد ثلاث عشرة سنة على وفاة عبد الله إبراهيم، قمت بنشر سيرته الذاتية.. ما الحكمة من هذا؟

اشتغل منذ سنتين على هذه السيرة الذاتية. سبق لي أن عرفت عبد الله إبراهيم دون أن أعرفه حقا. إلى يومنا هذا، لا وجود لأي سيرة ذاتية تخصه، اللهم واحدة باللغة العربية. وليس لدينا الشيء الكثير عنه بالفرنسية. وجدت في مجلة "Lamalif" وجريدة "Maghreb Information" ندوات صحافية مترجمة. كما مدني أحد تلاميذه القدامى بترجمات لكتاباته، التي كانت في معظمها بالعربية. ورهان هذا الكتاب هو الإحاطة بهذه الشخصية التي كانت، ومنذ تلك الحقبة، مثيرة للاهتمام.

تقدمين عبد الله إبراهيم كحامل لآمال مجهضة. ماذا كانت طبيعة تلك الآمال؟

لست أنا وحدي من يقول هذا، إذ قال مؤرخ مؤهل مثل مصطفى بوعزيز إنه كان يحمل مشروعا إنسانيا كان يمكن أن يصبح مغربيا، أي نهجا وسطيا بين الإيديولوجيا المحافظة للمخزن وحزب الاستقلال من جهة، وتطرف رجال الفقيه البصري من جهة ثانية.

في 1959، وصفت الصحيفة الأمريكية "نيويورك تايمز" عبد الله إبراهيم بـ"الوطني المغربي"...

بعد أقل من ثلاثة أشهر فقط على الاستقلال، كان عبد الله إبراهيم ضد مواصلة الهيمنة الفرنسية على كل الاقتصاد المغربي، على عكس ولي العهد، مولاي الحسن، الذي قبل هذه الهيمنة.

كان عبد الله إبراهيم يسعى إلى فتح طريق وسط، من خلال ربط علاقات مع ألمانيا، إيطاليا، بلدان أوروبا الشرقية والولايات المتحدة. وكان هذا يتماشى مع السياسة الأمريكية لتلك الحقبة.

تقولين "كان محبوبا من طرف البعض، وممقوتا من طرف البعض الآخر؛ كان يوصف بالعصامي مع أنه مدجج بالشواهد". لماذا تصعب الإحاطة بهذه الشخصية؟

كان من الصعب فعلا القبض على هذه الشخصية والإحاطة بعمقها. فهو ثمرة تكوين تقليدي. وكان تفكيره معقدا ويصعب النفاذ إليه. لم تكن كتاباته تخضع لمنطق خطي كما هو الحال في نظام التفكير الغربي، بل كانت لولبية الشكل.

إبان الاستقلال، كان هناك تمييز بين الناس الذي اتبعوا تكوينا على الطريقة الغربية، وأولئك الذين تكونوا على الطريقة التقليدية. وكانت الفئة الأولى تحتقر الثانية. ولعل هذه القطيعة الحضارية – مثل التي حدثت بين الحسن الثاني ووالده، بين بعض أعضاء حزب الاستقلال ضمنهم علال الفاسي والحداثيين- هي التي تفسر هذ التناقض.

عبد الله إبراهيم كان تقليديا بيد أنه كان مختلفا كليا عن أعضاء حزبه. فرغم أنه تلقى تكوينا تقليديا، إلا أن ما يقوله عن الدين يبعث على الدهشة

وفي النهاية، المسألة ثقافية. قد يبدو في الأمر تناقض صارخ، ولكن عبد الله إبراهيم كان تقليديا بيد أنه كان مختلفا كليا عن أعضاء حزبه. فرغم أنه تلقى تكوينا تقليديا، إلا أن ما يقوله عن الدين يبعث على الدهشة. كان يمقت التقليد ويعتبر نفسه ماركسيا. وكان الحسن الثاني يسخر منه بالقول إنه لم يهضم جيدا معنى الماركسية(...).

يعاني المغرب من نضوب رجال الدولة الحقيقيين، رجال من طينة عبد اللهإبراهيم.. هل يمكن تدارك الأمر؟

هذا وضع عالمي. ولعل في دونالد ترامب المثال النموذجي. قال نجل عبد الله إبراهيم شيئا أثارني خلال تقديم كتابي. قال، عن حق، إن والده كان يفكر لـ25سنة المقبلة، لجيل كامل. وبالفعل كان الناس الذين انتقدوه يقولون إنه لا يرى المشكل الآني.

بطبيعة الحال، هذا كان عيبه. ولكن لا يوجد اليوم من يفكر مثله. فسياسيو اليوم يكونون سعداء إن فكروا لمدى خمس سنوات، أي مواعيد الانتخابات.

الآن، هل يمكن تدارك الأمر أم لا؟ لست أدري حقا. الشيء الوحيد المؤكد أن النسق الحالي للأمور سينهار، وسيتعين إذاك التفكير في نسق بديل.

قمت بعدة أبحاث حول عبد الكريم الخطابي، هذه الشخصية التي يقدمها مختلف المؤرخين سواء كـ"انفصالي"، أو كـ"وطني مغربي حقيقي" حاول البعض طمس ذكراه. من هو حقا، في نظرك؟

كان عبد الكريم الخطابي في غاية الذكاء، ولكن لا يمكن إخراجه عن حقبته ووسطه. فهو ابن أحد الأعيان، وكان بدوره واحد من هؤلاء الأعيان. ما أثار اهتمامي بالخصوص في البداية أنه كان من بين الصحافيين المغاربة الأوائل.

كان عبد الكريم الخطابي في غاية الذكاء، ولكن لا يمكن إخراجه عن حقبته ووسطه

في تلك الفترة، كانت منطقة الريف تحت هيمنة إسبانيا، وقرر والده التعاون مع الإسبان، بكل بساطة. كان هذا الموقف عقلانيا، خاصة وأن عدة ثورات سابقة منيت بالفشل. وبسبب تداخل عدة أحداث، تقرر أن تحتل إسبانيا هذه المنطقة، فوجد عبد الكريم الخطابي نفسه زعيما حربيا. وكان رجل دولة كذلك.

هل كان انفصاليا؟ نعم ولا. بما أن المخزن في تلك الفترة كان يبعث جنوده إلى الفرنسيين والإسبان لمحاربته، ماذا كان بإمكانه أن يفعل؟ بالمقابل كان يتحدث عن تشبثه بالمغرب وبكل الحضارة العربية الإسلامية. لا ننسى أننا في عهد مصطفى كمال أتاتورك، والنهضة العربية.. إلخ.

في نهاية المطاف هو ابن تلك الحقبة كما أن عبد الله إبراهيم ابن حقبة تشي غيفارا والحركة العالم ثالثية.

عادت صورة عبد الكريم الخطابي إلى قلب الأحداث مع حراك الريف.هل هو مجرد صورة رمزية يعبر من خلالها الريفيون عن رفضه أم أن الأمر أعمق من هذا وتمثل كسرا يستحيل جبره؟

بالنسبة إلى الريفيين، الخطابي هو رجلهم العظيم، بطلهم. وهم يدركون جيدا أنهم ريفيون ومغاربة. ويجب الإقرار بأن مشكلتهم الأولى تتمثل في كونهم يعيشون على أرض فقيرة، وهذا حالهم دائما. فحياة الريف كانت دائمة مرتبطة كليا بصادراته من اليد العاملة، السكان هناك كانوا، ومنذ زمن طويل، في حاجة إلى الهجرة للعيش. ثم، ليس لديهم أي استثمارات كذلك، وهذا مشكل كبير كذلك. قُدمت لهم وعود لم يتم الوفاء بها.

في رأيي المتواضع، كان القمع الذي سلط عليهم عنيفا جدا وأكثر عنفا من اللازم. لم تسع السلطات لفهم الريفيين.

المهدي بن بركة شهيد وإيقونة. هل يمكن، في نظرك، الحديث عن مناطق الظل في حياته، انطلاقا من المبدأ الذي يقول إن الإنسان، في التاريخ، ليس دائما أبيض تمام البياض ولا أسود كل السواد، بل يبقى رماديا، إن كنا فعلا نسعى إلى الحقيقة التاريخية؟

من حيث المبدأ، نعم. ولكن ما هي مناطق الظل في حياة المهدي بن بركة؟ ليست كثيرة. فهو لم يكن يخف نواياه. الواقع أنه لم تكن في حياته مناطق ظل مثل أوفقير أو شخصيات أخرى. في نهاية المطاف، كان شخصا بسيطا، واضحا. لما اشتغلت على المهدي بن بركة، أثارتني كثيرا معلومة بعينها: كان في الـ45 من عمره لما مات. قلت في نفسي كان في فجر مسيرته لإنجاز شيء ما.. كان شخصا في غاية الذكاء. وعلى أي، فالناس في حاجة إلى إيقونات.

المهدي بن بركة لم يكن يخف نواياه. الواقع أنه لم تكن في حياته مناطق ظل مثل أوفقير أو شخصيات أخرى

بعد أخذ المسافة، هل تبدو لك حصيلة الحسن الثاني "إيجابية على العموم"، كما قال الفرنسي جورج مارشي حول الشيوعية، أم أن "إرثه السلبي" له وزن أثقل في الميزان؟

يمكن أن ندرس التاريخ، ولكن لا يمكن أن نعيده. المشكل في ما كان يسعى الحسن الثاني إلى القيام به. والحال أنه قام بما كان يرغب فيه. خذ مثلا، النهج الوسطي لعبد الله إبراهيم، الذي كان يقوم على اعتماد اشتراكية "ناعمة"، على أمل أن تفضي مع مرور الوقت إلى تغيير في طبائع الناس وطبيعة ملكية الأراضي، إلخ.. لكن الحسن الثاني لم يكن يرغب في هذا. كان يدرك أن تغيير بناء الاقتصاد يفضي إلى تغيير الوضع السياسي.

(...) ترك عبد الله إبراهيم يشيد الأبناك، ويغير العملة، فلم تكن في كل هذا رهانات كبيرة، لم تكن للمغرب صناعة. تركه يقوم بكل هذه الإنجازات ليستعيدها فيما بعد. تركهيهييء المخطط الخماسي، ولكن ما أن أخرجه من الحكومة حتى بادر إلى تغيير المخطط.

سبق لك ان خصصت كتاب للوزراء المغاربة المتزوجين من أجنبيات. اليوم لدينا عدة مسؤولين سياسيين مزدوجي الجنسية. ما رأيك في هذا الجدل؟

لما يكون المرء مسؤولا سياسيا، فلا يجب عليه أن يكون مزدوج الجنسية، حسب تقديري. فهذا يعني أنهم لا يثقون في الدولة التي يقومون بخدمتها أو التي ينتقدون. نعم، لدي جنسية مزدوجة، ولكن أنا ولدت هكذا، وبالتالي يصعب علي أن أتخيل نفسي مسؤولة سياسية.

ترجمة عن "تيل كيل" بتصرف