سعاد.. حكاية نجاح شابة قادتها "الأقدار" إلى منزل أم الأطفال المتخلى عنهم

الشابة سعاد التي استطاعت النجاح رغم ظروفها الصعبة
سامي جولال

''بعد خمسة عشرة دقيقة من ولادتها لي، تركتني ولم تعد؛ وكأني لست جزءً منها''، تقول سعاد (اسم مستعار) المتخلى عنها، والمولودة عن علاقة خارج اطار الزواج، في حديثها عن أمها التي خذلتها في أول يوم رأت فيه النور عام 1996، وتركتها في منزل ''القابلة'' التي أشرفت على عملية الولادة، دون أن تهتم لأمرها وهي مولودة لم يمر على ميلادها ساعة من الزمن حتى.

سعاد الشابة الموجزة في القانون العام، والقاطنة في مدينة بن احمد-سطات، والبالغة من العمر 20 سنة، لحسن حظها، شاءت الأقدار أن تولد في بيت (ع) التي كانت تمتهن حينها مهنة تربية الأطفال بمقابل مالي. هذه الأخيرة اعتبرت سعاد وأربعة متخلى عنهم آخرين أبناء لها، وتكفلت بمصاريفهم إلى أن أصبحوا شبابا أصغرهم يبلغ من العمر حاليا 18 عاما.

''أنتم مثل أصابع يدي الخمسة؛ لا أحد منكم أفضل لدي من الآخر''، هكذا نقلت لنا سعاد كلام ع عنها وعن الأربعة الآخرين المتخلى عنهم، الذين ترعرعوا وكبروا تحت سقف بيتها. أرملة عاقر توفي زوجها سنة 2001، وتركها في مواجهة مصيرية مع واقع فرض عليها مسؤولية إعالة وتربية خمسة أطفال، إلى جانب أطفال آخرين كانت تربيهم وتهتم بأمرهم لمدة يوم واحد أو أسبوع، نظرا لانشغال آباءهم بمسائل أخرى. هؤلاء كانوا يقدمون لها في مقابل هذه الخدمة مبالغ مالية كانت تغطي مصاريف حياتها اليومية، حسب ما أفادته سعاد.

''تخلي أمي عني مرض أعاني منه طوال حياتي''، كلام مصحوب بتنهيدة قالته سعاد واصفة وضعيتها التي كان طيش أمها سببا فيها كما جاء على لسانها. ورغم حظها الجيد الذي أوصلها إلى بيت امرأة لم تستغلها، إلى جانب الأربعة الآخرين المتخلى عنهم، في التسول أو التشغيل في المنازل أو الدعارة... إلا أنها تعيش حاملة معها عقدا نفسية ترافقها في كل مكان وزمان.

أمي "أورثتني العقد النفسية"

لماذا تخلت عني أمي؟ ما هو الذنب الذي اقترفته لكي أعيش هذه الوضعية؟ لماذا لم أولد وسط أسرتي الحقيقة وفي وضعية عادية؟ ما الفرق بين أمي وباقي الأمهات اللواتي لم يتخلين عن فلذات كبدهن؟ أسئلة وأخرى قالت سعاد أنها تروج في بالها ولا تفارقها طوال الوقت.

''سيري قلبي على مك''، عبارات تذكرتها سعاد، وقالت بأنها كانت توجه إليها من قبل أقرانها، وهي طفلة، في لحظات الشجار بينهم، موضحة ''حينها كان سني لا يزال صغيرا، ولم أكن أفهم ما تحمله هذه العبارات من دلالات سلبية''. ''هكذا استلمت، بعد تقدمي في السن ووعي بالأمور، الإرث الذي تركته لي والدتي، إرث مختلف تماما عن الذي يتركه الآباء لأبنائهم، إرث لا أملاك فيه ولا أموال، إرث العقد والمشاكل النفسية''، تقول سعاد.

موجزة في القانون العام، عبارات سهلة القول تختزل المسار الدراسي لسعاد، لكن هذا الأخير واجهتها فيه مشاكل كبيرة بسبب تخلي أمها عنها. فبعد تعاطف إدارة المؤسسة التعليمية الابتدائية التي درست فيها معها، وقبولها في صفوفها دون حصولها على الوثائق المطلوبة أثناء التسجيل، وبعد حصولها على الشهادة الابتدائية، رفضت الثانوية الإعدادية التي قصدتها بغية إكمال دراستها تسجيلها في صفوفها، لأن وضعيتها القانونية غير مسواة، بل لأنها غير مسجلة في سجل الحالة المدنية حتى.

''بمشقة الأنفس سجلت في سجل الحالة المدنية، والفضل في ذلك يعود إلى ماما''، تقول سعاد في حديثها عن تسوية وضعيتها القانونية من قبل مربيتها ع، مردفة ''لولا مكافحة المرأة التي ربتني من أجل أن أكمل دراستي، لما كنت متعلمة وحاصلة على شهادة جامعية''.

لقاء بعد 20 سنة من التخلي

بعد 20 سنة من التخلي، تعود الأم الحقيقية لتظهر في المشهد من جديد، طالبة لقاء ابنتها التي تركتها دون حتى أن تختار لها اسما تنادى به في هذه الحياة. تظهر بعد أن أصبحت لديها أسرة جديدة مكونة من زوج وثلاثة أطفال، تستقر وإياهم في الديار الإيطالية.

ترى كيف واجهت سعاد هذا الموقف؟ وكيف قابلت أمها الحقيقية؟

''مرحبا بقدومها. إنها ضيفة، وماما لم تربيني على طرد الضيوف''، بهذين الجملتين ردت سعاد على صديقة لأمها الحقيقية، زارت منزل (ع)، طالبة منها ومن سعاد تحديد موعد لصديقتها تقوم فيه بزيارتهما.

''لم أرغب في الجلوس بجانبها. ولم أحس تجاهها بأي شعور، شأنها شأن أي شخص لا أعرفه''، كان هذا رد سعاد عندما سألناها عن أول لقاء جمعها بوالدتها الحقيقية، بعد أسبوع من قدوم صديقة هذه الأخيرة، وبالضبط يوم 28 غشت 2017، مضيفة ''لا يمكن أن أناديها بماما، وأن أحس تجاهها بشعور الأمومة''.

''لن أسامح من كان السبب. الظروف كانت أقوى مني. كنت خائفة من ردة فعلك يا سعاد، لذلك لم أزرك طيلة هذه المدة''، كان هذا بعضا من كلام أم سعاد الحقيقية أثناء تبريرها مسألة تخليها عن ابنتها. موقف قالت عنه سعاد ''الحاضرون كلهم بكوا إلا أنا كنت عديمة الإحساس وكأني بدون قلب، لكن في الأخير قلت لها أني سامحتها''.

سعاد نسخة من كثيرين، تختلف عنهم في الاسم، لكن واقعها وواقعهم واحد، واقع تخلي من كانوا سببا في قدومهم إلى هذه الدنيا عنهم. بعضهم كان مصيره الضياع بين دهاليز هذه الحياة التي لا ترحم، وبعضهم وضعته الأقدار بين أياد قررت أن تكون له سندا وتعوضه عن حنان الأم والأسرة الحقيقيين مثل سعاد.

''الأم ليست من أنجبت، وإنما من ربت. والإخوة ليسوا من تتشارك وإياهم نفس رحم الأم المنجبة، وإنما من عشت معهم تحت سقف بيت واحد''، تقول سعاد مضيفة ''ومهما فعلنا فلن نوفي المرأة التي ربتنا حقها''.

سعاد تربت تربية جيدة، وكبرت، وتعلمت، لكن تخلي والدتها عنها سم تتجرعه كل يوم تعيشه، إذ كررت أكثر من مرة ونحن نحاورها، بحسرة وصوت مقهور عنوانه الحزن، ''الحيوانات بدون عقل ولا تتخلى عن أبنائها، وأمي فعلت ذلك، إذن فهي إنسانة غير طبيعية''.