عبد الله إبراهيم.. في رحاب الثقافة والعلم بباريس(8)

تيل كيل عربي

في باريس وجد عبد الله إبراهيم نفسه في مناخ ثقافي وعلمي ملائم تماما. وأخذ ينهل من كل المعارف التي يصادف في طريقه بعاصمة الأنوار.

"وجد هذا الشاب ذو الـ27 سنة نفسه في الوسط الثقافي الذي كان يأمل فيه دائما.. وانتابته حمى الثقافة وغمره ظمأ معرفي لا يروى. كان سعيدا، فقد صار بإمكانه إطلاق العنان لرغبته الجامحة في التعلم، ولولهه بالقراءة".

التحق عبد الله إبراهيم، خريج مدرسة بن يوسف بمراكش، بجامعة السوربون،  في تخصصات القانون والاقتصاد و الفلسفة، ليصبح من طلبة الأستاذ "جون أندري ووهل"، صاحب مؤلفات حول أفلاطون وديكارت وهيغل، وهو أستاذ شهير ومن أنصار تيار "الفلسفة الحية".

كما تسجل هذا الشاب المراكشي في قسم اللغات "وكان يطمح إلى تعلم الألمانية لأنه كان مفتونا بفكر ماركس وهيغل ونيتشه وشوبنهاور.

وكان يسعى إلى قراءتهم في لغتهم الأصلية. بل ويقول 'قمت بدراسة علم الجمال مع البروفسيور إتيان، كما درست السايكولوجيا والأمراض النفسية' بل وكان يذهب "مرة في الأسبوع إلى المستشفى لزيارة المرضى وفهم الكيفية التي يشتغل بها العقل البشري، رفقة البروفيسور دولي الذي كان يشتغل بمستشفى سانت آن'(...).

كان يحاول بكل شغف التوليف بين كل هذه التيارات الثقافية من جهة والفكر التقليدي الذي كان دوما يضعه في سياقه، تماما مثل الدين. فهو يعتقد أن الإسلام عقيدة (doctrine) هوياتية(...).

لقد فهم عبد الله إبراهيم سريعا أن تغيير السياسة ليس كافيا لتغيير العقليات. بل يجب الاشتغال بعمق على الجسم المجتمعي، وخلق ثقافة جديدة، خلق حركة إنسانية مغربية. وهذا ما جاء يبحث عنه هنا في باريس.

ووجد في الفلسفة تصورا آخر للسياسة. وقد قال هيغل مرة إن قيمة الشعوب بقيمة أعمالها، لذلك يجب دفعها إلى العمل إلى التنمية(...).

كان الوسط الثقافي في تلك الحقبة بباريس في غاية الثراء، فقد كان يعيش فيها كل أولئك الذين سيصبحون أسماء لامعة فيما بعد: سارتر، كامو، مورياك، ليفيناس، مارلو بونتي، بيكيت، يونسكو، أوسمان سمبين، أرغون، جنيه، شتينبك، هيمنغواي... وغيرهم.

كانت الأجواء حماسية، والعروض المسرحية متدفقة كما الإصدارات والترجمات. إنها حقا حقبة مؤسسة، مجددة، منفتحة. وقد أحسن هذا الشاب المراكشي الاختيار بالقدوم إلى باريس في هذه الفترة(...).

في السنة الدراسية 1946/1947، تسجل عبد الله إبراهيم في مدرسة الدراسات العليا، شعبة العلوم التاريخية والفلسفية بتوصية من الأستاذين بلاشير وسوفاجي ليكون المغربي الواحد بين 596 طالبا مسجلا من 133 بلدا.

كان معه تونسيان، 11 مصريا بينهم امرأتان، أربعة إيرانيين بينهم امرأة، هندي واحد، لبنانيان، ثلاثة سوريين. وكان بين الفرنسيين المسجلين عدة أساتذة كبار مثل مارك فيرو، أندري ريموند، جون إيمبر، ألان بوسك، وآخرين.

أحس عبد الله إبراهيم نفسه في عالمه، بعيدا عن التقليد والجمود اللذين كانا موضوع انتقاداته بمراكش(...) وكان يعتقد أن الناقد والعالم يسبقان، في كل الثورات الروحية المجدد والمصلح(...) كان يحلم، مثل إراسموس، بتشكيل أرستقرطية العقل، استقراطية الثقافة قبل أي شيء آخر.