عدنان إبراهيم (2): الإسلام السياسي أجهض الإصلاح الديني.. ويتعارض مع الدولة المدنية والمواطنة

غسان الكشوري

تتمة للجزء الأول، من الحوار الذي خص به المفكر الإسلامي عدنان إبراهيم، "تيل كيل عربي" بحوار مثير ومطول (3 أجزاء)، ولأول مرة مع منبر إعلامي مغربي، يواصل المفكر المثير للجدل، في هذا الجزء الثاني، حديثه حول تعالق الديني والسياسي، وذلك بتفكيك بنية حركات الإسلام السياسي والجماعات الدينية، وتأثيرها السلبي في مسيرة الإصلاح الديني والتعايش مع باقي الأديان، بأجوبة دقيقة ومفصلة.

الجزء الثاني (2):

كيف تنظرون إلى دور المدارس الإصلاحية والمشاريع الفكرية والدينية، في ظل وجود حركات الاسلام السياسي؟

من رأيي أن محاولة جمال الدين الأفغاني و صاحبه الإمام محمد عبده من جهة، والحركة السلفية العلمية التي أسس لها محمد بن عبد الوهاب، على بعد ما بينهما، وعلى اختلاف الناس في تقييم كل من التجربتين، وبقدر أقل منهما حركة الإمام أحمد بن عبد الرحيم، المعروف بشاه ولي الله الدهلوي في شبه القارة الهندية، ومحمد بن علي السنوسي في ليبيا، وحركة سير سيد أحمد خان في الهند، مؤسس جامعة عليكره الإسلامية، وإن بقدر أقل كثيرا من المدارس السابقة، هي التي يمكن نعتها بالمدارس، لاعتبارات غير خافية على المراقب.

أما ما أتى بعد ذلك فضربان بينهما بون بعيد؛ مدارس حركية بطبيعتها، هي التي صارت تعرف مؤخرا بحركات الإسلام السياسي، أو التيارات الأصولية، والتي يبدو من تقييم أعمالها وأدبياتها أن الإصلاح العلمي لم يكن في القلب من اهتماماتها، بل أرجئ معظمه لحين الوصول إلى السلطة السياسية، ليستكمل المشروع الإصلاحي من الرأس لا من القاعدة. وأخرى هي كما وصفتها حضرتك، مجرد مشاريع فكرية لم يفلح أي منها في الاستحالة إلى مدرسة فكرية.

حركات الإسلام السياسي قد ساهمت بقدر هائل، في إفشال و إجهاض عمل المدارس الإصلاحية التي كانت تعد بالكثير.

ومن وجهة نظري أن حركات  الإسلام السياسي قد ساهمت بقدر هائل، في إفشال و إجهاض عمل المدارس الإصلاحية التي كانت تعد بالكثير، لاسيما مدرسة عبده. فهذه الحركات تفتقر إلى برنامج إصلاح علمي متين ورصين، بدليل تسجيل بعض كبار روادها ـ القرضاوي وأحمد العسال وجمال الدين عطية ـ  عليها منذ فترة مبكرة، أن عقلها أصغر بكثير من جسمها، فالأول يضمر مع الزمن، بينما الثاني يكبر ويتضخم. ولكونها بهذه الصفة فقد عجزت عن الحيلولة دون تناسل حركات اعتراضية ـ إن جاز التعبير ـ اتسمت بطابع تدميري ذاتي، جزئيا عبر الإمعان في التكفير، تكفير الحكومات و الجماهير أيضا، و جزئيا عبر تحويل الجهاد الذي ينبغي أن يقصر دوره في الأساس على الدفاع عن حدود الدول واستقلالها إلى داخل الدولة وقلب الأمة.

بل إن التحالف والتداخل الذي وقع بين بعض حركات الإسلام السياسي، والتي عينها على السلطة، من جهة، والمدرسة السلفية العلمية في نسختها السعودية خصوصا، و التي عينها على إصلاح الفكر والسلوك، قد أسفر عن مخرجات شديدة الخطورة، أدخلت بل ورطت عالمنا الإسلامي في صراع دام مع الدول الكبرى، على نحو خرج معه الإسلام نفسه وأمته خاسرين أعظم الخسارة. والمقصود كما لا يخفى، تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة وملحقاتهما.

وماذا عن اختلاف المشاريع الفكرية، وتأثير ذلك في مسيرة الإصلاح ؟

المشاريع الفكرية المختلفة هي كثيرة جدا، وإن كان بعضها أقرب إلى أن يكون إسهامات، لا ترقى إلى حجم مشروع متكامل وواع بحدود عمله وغاياته، بدءا من أعمال الجمال القاسمي ورشيد رضا و شكيب أرسلان في بلاد الشام، وأعمال محمد إقبال، (..) وعلال الفاسي في المغرب، والطاهر بن عاشور في تونس،  والبشير الابراهيمي في الجزائر، ونصر حامد أبو زيد و حسن حنفي و أبو القاسم الحاج حمد و محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، و طه عبد الرحمن ، جمال البنا ومحمد شحرور والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، وغيرهم في النصف الثاني من القرن العشرين وما تلاه من القرن الواحد و العشرين.

أعرب عن استبشاري واستبشار كل راغب في الإصلاح، ناشد للتجديد، والتغيير الذي يقيلنا من عثرتنا الحضارية التي لجت بنا لقرون، ويبعثنا من جديد أمة قادرة على تمثل الخير الذي سبق إليه غيرنا، ومن ثم مشاركته.. بجعل الحياة أكثر طيبة وخيرية، والعالم أكثر سلاما وعدلا ورحمة.

الاختلاف في مشاغل واهتمامات هذه الأعمال والمشاريع، فضلا عن اختلاف مناهجها و مقارباتها، الأمر الذي يحتاج معه إلى عدد من الطروحات العلمية، على مستوى الماجستير و الدكتوراه، لتقييمها و مقارنتها. وأكتفي هنا بالإعراب عن استبشاري واستبشار كل راغب في الإصلاح، ناشد للتجديد، والتغيير الذي يقيلنا من عثرتنا الحضارية التي لجت بنا لقرون، ويبعثنا من جديد أمة قادرة على تمثل الخير الذي سبق إليه غيرنا، ومن ثم مشاركته في ما نستقبل ويستقبل من خير جديد، يساهم في تخصيب التجربة البشرية، ومباركتها، بجعل الحياة أكثر طيبة وخيرية، والعالم أكثر سلاما وعدلا ورحمة، والإنسان أقدر على ارتفاق الوجود، بفهمه وتسخيره.

وبديهي أن هذا الاستبشار وفسح الصدر لكل إسهام على طريق الإصلاح والتجديد، لا يعني شيكا على بياض لكل قائل وما يقول، لكنه يعني مكافأة الاجتهاد، ومباركة المحاولة والاهتمام. ومن وراء هذا، سيعمل غالبا الانتخاب الثقافي عمله، على سنّة "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".

هل الإصلاح الديني يحتاج إلى دعم وإرادة سياسية؟

تاريخنا يحوي بعض الأمثلة الموحية بهذا الخصوص، لرجال دولة كبار أحاطوا أنفسهم بالعلماء والمصلحين الناصحين، الحريصين على مصلحة الأمة واستقرار الدولة، من مثل عمر بن عبد العزيز، و مظفر بن محمود من ملوك أحمد آباد حاضرة الهند في وقتها، وبعده السلطان "عالم كير أورنك زيب"، من أحفاد تيمور لنك.

وكذلك يزودنا تاريخ أوروبا الحديث بجملة أمثلة مضيئة في هذا الصدد، منها روجر الثاني ملك صقلية، وأفضل ملوكها النورمانديين لجهة دعم العلم واحتضان العلماء، وكان من مشاهير رجاله الجغرافي المسلم الشهير، الشريف أبو عبد الله الإدريسي، ومثل أسرة ميديتشي Medici في فلورنسا، التي امتد حكمها قرابة ثلاثمئة سنة (من 1434 الى 1737)، والتي قادت ولادة النهضة  Renaissance برعايتها للفنون والعلوم، وقد شركها في هذا أسر أخرى مثل آل سفورزا و آل فسكونتي.. وغيرها من الأسر الكبيرة.

وبعد أن حكم على الامبراطور الروماني المقدس تشارلز الخامس، على مارتن لوثر بالإعدام، بإيعاز من بابا روما، لم ينجه من ذلك، إلا تدخل أمير سكسونيا الذي نجح في إخفائه عن الأنظار لمدة عام كامل، وقد كان الأمراء الألمان أقوى مؤيدي لوثر، في الوقت الذي كانوا فيه على خلاف مع الإمبراطورية الألمانية. ومن جهته، أوصى لوثر هؤلاء الأمراء ـ الذين بلغ عددهم 500 أمير ـ بإنشاء كنائسهم الخاصة لقطع صلة الكنائس المحلية بروما، وللقضاء على مجلس الكنائس الأعلى.

كما شهد عصر التنوير أمثلة عديدة على رعاية الملوك ـ رغم كونهم مستبدين منفردين بالحكم ـ لعدد من كبار رجالات التنوير، منهم فريدريك الكبير وامبراطورة روسيا كاثرين الثانية المعروفة بكاثرين الكبيرة، اللذين كان بلاطهم يموج برجال التنوير.

هؤلاء المستبدون العادلون هم الذين بعثوا الإمام محمد عبده على القول: إنما ينهض بالشرق مستبد عادل، مستبد يُكره المتناكرين على التعارف، و يُلجئ الأهل إلى التراحم، ويقهر الجيران على التناصف، و يحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة،... فهو لهم أكثر مما هو لنفسه، فهل يعدم الشرق كله مستبدا من أهله، عادلا في قومه، يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة، ما لا يصنع العقل وحده في خمس عشرة قرنا؟

وما الذي يمكن استنتاجه من هذا للفترة الراهنة ؟

قد يرى المرء أن النظام السياسي الذي يُؤمَّلُ في دعمه لمشاريع الإصلاح الديني، على قدر ثباته واستقراره يخلو دعمه من شوب توظيف مشاريع الإصلاح لتبرير أوضاعه، و تسويغ ممارساته. و أيا ما كان، فإن من بين أبرز الدروس التي أملتها الحقبة الأخيرة، بكل ما شهدته من فصول الصراع والاحتراب العنيف، أن كل تأويل للدين يكون أقرب الى إشاعة قيم الرحمة و التسامح، و ثقافة الإنفتاح و الحوار مع الآخر، سيوفّر على الأمة كثيرا من المعاناة، و سيقربها من إنجاز مشاريع التحديث والتنمية في أجواء أكثر استعدادا، وأفضل قابلية.

في الإصلاح الديني..  إما أنجزنا المهمة بنجاح، وإما تركناها لينجزها من لا يحسن، فيزيد الأمر عنتا وهولا.

ولما كان الدين ضرورة لا يمكن تجاوزها، وخصوصا في عالم المسلمين، فما بُدٌّ من التعامل مع ملف إصلاحه وتجديده على نحو يفي لمقاصده وروحه، بتلبية متطلبات الروح، وتطلعات العقل، وإسناد المجتمع بقيمه الفاضلة، وتقاليده الإيجابية، وبما يحقق التواصل مع التراث، والحضور في العصر في آن. فإما أنجزنا المهمة بنجاح، وإما تركناها لينجزها من لا يحسن، فيزيد الأمر عنتا وهولا.

هل في نظرك للإسلام السياسي والحركات الدينية، في الوقت الراهن، دور في ترسيخ قيم التسامح والعيش المشترك مع باقي الأديان، أم تراه يزيد من تأزم الأوضاع ولم تعد الحاجة إليه ضرورة في المجتمعات؟

ليس من همّ الإسلام السياسي ترسيخ القيم التي ذكرت، بل في القلب من همه نيل السلطة السياسية، وهل ننسى تصريح أحد كبار رموز الإسلام السياسي ـ بل كبيرهم في ذلك الوقت ـ عام 1997 بعدم جواز دخول الأقباط في مصر الجيش الوطني ووجوب دفعهم للجزية، ما يعني أن مفهوم (أهل الذمة) يعتبر ساري المفعول لا يزال في فهم هؤلاء، والفتاوى المانعة من بناء  الكنائس ودور عبادة غير المسلمين في المدن و البلدات التي فتحها المسلمون عنوة.

وقد رأينا ولسنوات عدة جماعة من كبار رموز ومنظري الإسلام السياسي، ولا همّ له في كثير من برامجهم ولقاءاتهم المتلفزة إلا استفزاز شركائنا في الأوطان من إخواننا المسيحيين بالنيل من كتابهم وتاريخهم وعقائدهم، وقرفهم بتهمة الائتمار بالدولة والوطن وتخزين السلاح في الكنائس، للانقضاض في الوقت المناسب.. الخ من هذه الترهات والأفائك.

الإسلام السياسي بنزعته شبه الشمولية ومرجعيته الماضوية، ذات الطبيعة الفقهية أساسا، يتعارض إلى حد بعيد مع مشروع الدولة المدنية الحديثة بمرجعياته المعروفة والقائم على أساس المواطنة المتساوية..

من كان أمينا مع الحقائق يعلم يقينا ومن أقصر طريق، أن الإسلام السياسي بنزعته شبه الشمولية ومرجعيته الماضوية، ذات الطبيعة الفقهية أساسا، يتعارض إلى حد بعيد مع مشروع الدولة المدنية الحديثة بمرجعياته المعروفة والقائم على أساس المواطنة المتساوية؛ ففي ظل أفضل الصيغ لدى حركات الإسلام السياسي لن يكون غير المسلم في أفضل أحواله إلا مواطنا من الدرجة الثانية. وهذا طرح لم يعد مقبولا في وقت تزداد فيه مجتمعاتنا تنوعا وتباينا لجهة العقائد والأفكار، بعد انفتاحها على العالم الكبير بدرجة غير مسبوقة، وأيضا في ظل شيوع منظمات حقوق الإنسان المستندة إلى مرجعيات ذات بعد عالمي تقريبا.

لقد رأينا و لمسنا كيف نجحت هذه الحركات في شق المجتمعات رأسيا، حتى في داخل المساجد، التي من المفروض أن تكون لله، وألا يدعى فيها إلا إليه، ما يثير قلقا له مبرراته الموضوعية بخصوص مصير غير المسلمين، ومن بينهم بالطبع المرتدون عن الإسلام، في ظل حكم هذه الحركات.

من المهم الإشارة إلى حقيقة؛ كيف ألجأت الممارسة العملية، لعملية حكم هذه الحركات ـ في تركيا و تونس تحديدا ـ  إلى تبني توجه مختلف عما كانت تعلنه قبلا، تحت عنوان فصل الدعوي عن السياسي، والذي هو في حقيقته تقنيع للفصل بين الديني والسياسي، ما يعني في الواقع العودة إلى الطرح أو الحل العلماني.

إذن كيف ترى مستقبل هذا الاسلام السياسي؟

لست أرى أي مستقبل واعد لحركات الإسلام السياسي، مستقبلها صار خلفها لا أمامها. يوم كانت بقدراتها التعبوية والمالية قادرة على احتكار المشهد الدعوي ـ إن جاز التعبير ـ في ظل مناخ فكري وثقافي يغلب عليه التجانس إلى حد بعيد، فضلا عن انغلاقه على نفسه تقريبا، بعيدا عن المرجعيات العالمية لحقوق الإنسان، والمصادر الأوسع والأكثر تنوعا للفكر، يوم كانت تقدم وعدا يخلب ألباب قواعدها الجماهيرية، وعدا لم يجر تجريبه بعدُو اختبار جدواه ونجاعته في أرض الواقع بطريق الممارسة. والآن كل ذلك قد صار من الماضي. (...)

يتبع.. الجزء الثالث والأخير

اقرأ أيضا الجزء (1).. عدنان إبراهيم: الأديان كمؤسسة اجتماعية تنكّرت كثيرا للإنسان