مونية بناني الشرايبي: القصر لم يعد يرى بديلا عن الجيش كمدافع عن العرش

عمر قباج

في هذا الحوار المثير، تعود الباحثة المغربية مونية بناني الشرايبي، أستاذة العلوم السياسية بجامعة "لوزان" السويسرية، إلى  التطورات الأخيرة بالساحة السياسية المغربية، وبالخصوص تفاعلات العلاقات المتوترة بين السلطة والشباب المغربي، على ضوء إعادة العمل بالتجنيد الإجباري.

مونيا بناني الشرايبي

هل غيرت السلطة مؤخرا من استراتيجيتها في مواجهة رياح الغضب الشعبي؟ كيف تطورت هذه الاستراتيجية عبر التاريخ؟

اتضح، اليوم، أن المشهد السياسي الرسمي غير قادر على النهوض بمهمة نزع فتيل التوترات، التي أسندت إليه منذ بضعة عقود. وبالتالي فالتعديلات تجري على الهامش وتختزل في بعض الإعفاءات. والحال أنه منذ الاستقلال، كانت الديناميات الاحتجاجية تدفع بشكل منتظم إلى إعادة تشكيل اللعبة السياسية الرسمية، في هذا الاتجاه أو ذاك. فعلى إثر أحداث 1965، حل الحسن الثاني البرلمان وأعلن حالة الاستثناء، إذ لم يعد بمقدوره الاعتماد على أغلبية حقيقية لممارسة الحكم وفق هواه. وصار الجنرال أوفقير، أكثر من أي وقت مضى، الرجل القوي للنظام. بعد المحاولتين الانقلابيتين لسنتي 1971 و1972، انتبه الحسن الثاني إلى أن حكمه تسبب في تحالف غضب النخب السياسية، المتجذرة نسبيا في المجتمع، وغضب الضباط الذين اعتمد عليهم لكسر شوكة المعارضين والمحتجين. وبما أن القمع وحده لم يكن كافيا لضمان بقاء النظام، شرع في بناء أسس مادية ورمزية لتوطيده والعمل على استقراره. وكان جوهر هذه الآلية الجديدة يقوم على إبعاد الجيش عن الرباط وإحياء لعبة سياسية رسمية مقتصرة على جزء من النخب. وبعد كل موجة من الاحتجاجات، لم يعد الأمر يقتصر على سياسة العقاب وتشديد المراقبة، بل صارت السلطة تعمد إلى جذب نخب جديدة ودفع المعارضين الشرسين القدمى إلى المشاركة في اللعبة السياسية القائمة.  فلا يمكن فصل السعي إلى "التناوب" الذي تم في 1998، عن احتجاجات بداية التسعينيات. وتعيين الأمين العام لحزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة في 2011، امتداد مباشر للأحداث التي عرفتها البلاد في تلك السنة. وفي كل مرة كانت النخب التي تمت استمالتها تدعي نوعا من التجذر المجتمعي.

ولكن، منذ 2016، لم تعد الملكية قادرة على "تدوير" هذه الوصفة. إذ تركت الوعود بالتناوب مكانها لحكومات غير متجانسة، ولآليات تعيق بروز أي قوة سياسية يمكن أن يكون لها تجذر في المجتمع. هكذا سقطت الصمامات، وصارت اللعبة السياسية، المقتصرة على النخب المستمالة، عديمة الفعالية، خصوصا بعد أن طرأ تحول كبيرعلى الاحتجاجات الشبابية.

هل هذا سببه أن الشباب، وهو محرك هذه الاحتجاجات، قد تغير؟

في الواقع، ومنذ الثلاثينيات، كانت الحماية الفرنسية تنظر إلى "الشباب" كمصدر "تهديد"، بل كـ"سرطان". ولكن الشباب الذي برز خلال الاحتجاجات ضد الظهير البربري كان يشكل نخبة حضرية محدودة، متعلمة وإصلاحية. وندين لها مثلا بالوجه الشبابي الذي كان في الطليعة السياسية. خلال عقد الستينيات، كان التلاميذ والطلبة الذين شكلوا رأس حربة الاحتجاجات الشبابية ينتمون إلى أصول اجتماعية أكثر تنوعا، ولكنهم كانوا يمثلون نخبة "مثقفة" كانت هدفا لسخط الحسن الثاني. في 2018، لا ينتمي الشباب الذين اعتبروا "طبقة خطيرة" إلى النخب الحضرية، كما هو الحال في الثلاثينيات، ولا إلى الطبقات المتحركة اجتماعيا في الستينيات. وبعض الفاعلين بينهم ينددون بتحويل هذه الفئة إلى "شباب غير نافع"، وتكريس ثنائية "المغرب النافع" و"المغرب غير النافع" الموروثة من الاستعمار. ومنذ نهاية العقد الأول من سنوات الألفين، أخذ يظهر بشكل منتظم في المظاهرات نوعا من "قلب الوصم": ولادكم قريتهم، ولاد الشعب طردتهم.. ولادكم شبعتهم، ولاد الشعب جوعتهم... ولكن ولاد الشعب فاقوا... ولاد الشعب يصرخون: هذا مغربنا وحنا مواليه....

في سياق امتدادات أحداث 2011، تمت ترجمة وعود "تشبيب" الطبقة السياسية، بخلق "كوطا الشباب" بالبرلمان، التي كانت تروم الاستمرار في منطق إعادة إنتاج النخب وليس فتح الطريق أمام الديناميات الجديدة التي تنشط في المجتمع.

ما هو المنطق الذي يستند إليه قرار إعادة العمل بالخدمة العسكرية الإجبارية؟

في السياق الحالي، يبدو إعادة العمل بالخدمة العسكرية إقرارا بالعجز عن جعل التعليم العمومي بوثقة الأمة وأداة في خدمة مشاريع التنمية المنتجة لمناصب الشغل. والحال أنه بدل جعل الجيش بوثقة للأمة، يبدو المشروع الحالي محاولة "لفرض نوع من الانضباط" على "الشباب غير النافع"، و"الطبقات الخطيرة" بشكل أعم.

إذا ما تم تطبيق هذا الإجراء، فقد يكون محفزا لأثر لم يتم الاستعداد له: تسريع مسلسل يجري حاليا، ويتمثل في خلق نوع من التجانس بين "الهوامش"(périphéries) المغربية، وتكريس الشرخ السياسي بين "المغرب النافع"، الذي يعرف المستفيدون منه، ومنذ زمن طويل، أين توجد مصالحهم الطبقية، و"المغرب غير النافع"، الذي يتجاوز شيئا فشيء انقساماته اللغوية والجهوية والتاريخية، والذي لم يعد يخضع لسياسة الأعيان. وبدا خطاب العرش الأخير انه يميل إلى الإقرار بهذا الأمر.

في سياق جهوي ودولي مضاد للثورات، ويرفع من شأن "الرجال الأشداء" ويضفي الشرعية على "حجة الأقوى"، يبدو أن القصر لم يعد يرى بديلا عن تنصيب الجيش كمدافع عن العرش. ويمكن قراءة طريقة إخراج خطاب الحسيمة على ضوء هذا التوجه: عبارات قوية حاسمة، ضابط يساعد الملك على الجلوس ويظل في المشهد، استعادة رمزية لمنطلق أحداث الريف...

كيف يمكن تفسير العفو الذي استفاد منه عدد من معتقلي الحراك؟

بعد "تنبيه" (recadrage) خطاب العرش، لم يشمل العفو الذي صدر بمناسبة عيد الأضحى سوى جزء من معتقلي الريف، المدانين بعقوبة قصيرة. إن اللجوء إلى القمع المتفاوت ينبع من استراتيجية كلاسيكية: بما أن القمع الشامل يدفع إلى تماسك المقموعين، فإن الرهان الرئيسي في هذه الاستراتيجية هو التذكير بـ"الخطوط الحمراء" لتجنب استمرار المحتجين في توسيع صفوفهم، وبالمقابل تخفيف الضغط على أمل عزل "القادة" عن أولئك الذين ليسوا سوى"أتباع"، وبالتالي إضعاف التضامن مع معتقلي الريف. يبقى السؤال إن كانت هذه الحملات ستحد من تلاحم الديناميات التي تمور في ثنايا المجتمع. هذا ليس مؤكدا بالمرة.

ترجمة

عن "تيل كيل"