نافذة ثقافية مع هادي معزوز.. فيتاغورس: عندما يعجز الرياضيات فينهار لصالح الفلسفة

هادي معزوز

استطاعت المدرسة الفيتاغورية نسبة إلى مؤسسها فيتاغورس، أن تضع الإنسان إلى يومنا هذا أمام شكل مهم من أشكال التفكير، وهو للإشارة تفكير لم يقتصر على الرياضيات فقط، بقدر ما شمل معارف عدة من أبرزها الرياضيات والتصوف والفلك والأخلاق.

إلا أن أكبر صعوبة قد تكتنفنا لربط حوار مع الفيتاغورية تكمن في أنها لم تترك لنا إرثا مكتوبا.

قد نغامر إذن ونقول إن الفيتاغورية كانت لها خصائص الطائفة بلغتنا المعاصرة إلا أنها طائفة لا تعنى بالدين أو التصوف لوحدهما، وإنما تعمل على تفسير العالم وإشكالاته وفق منطق رياضي.

أما من جانب آخر فإننا نلمس فيها روح الطائفية من خلال تمجيد السر الذي شكل منطلقها، سر لم يكن متاحا إلا أمام تلاميذ فيتاغورس شريطة عدم البوح به لغيرهم من الناس مهما كانت منزلتهم. لذا، ما هي خصائص هذا التفكير؟ وكيف تمكنت الفيتاغورية من التأثير على عقل الإنسان وطريقة نظرته للعالم؟

تتميز الفيتاغورية بمنطلق أول يرى أن العالم برمته عدد، وأن العلاقات بين الأشياء سواء في اتساقها أو انسجامها تتم قراءتها بمنطق عددي محسوب، وبعبارة أدق فإذا كان لكل شيء جوهره الخاص، فلا شك أن هذا الجوهر الذي يميزه هو العدد أو قل إن صورة الشكل عدد في نهاية المطاف.

والحق أن علماء كبارا تلقفوا هذا الأمر وصنعوا منه معجزات في الرياضيات على غرار فيبوناتشي ومتتاليته الشهيرة، أو دلالة العدد الذهبي.

عندما نعود للفيتاغورية نرى أنها انطلقت من علمين يقوم انسجامهما على العدد وهما علم الفلك من خلال حركات الكواكب المحسوبة والدقيقة، ثم الموسيقى عن طريق سلمها الصارم والمنسجم في نفس الآن.

قد نلمس هذا الأمر عندما نرى أن الأب الروحي للفيتاغورية هو أبولون إله الانسجام والموسيقى والنور.. لكن هذا النظام الذي يلف عالمنا سيكون في حاجة إلى أصل وهذا الأصل هو العدد.

المنطلق الثاني يتجلى في ضرورة تقسيم الفيتاغورية إلى قسمين، قسم اول يعنى بالجانب الديني والقسم الثاني مرتبط بما هو فلسفي رياضي.

تعتقد المدرسة الفيتاغورية في شقها العقدي أن للإنسان روحا تم نفخها فيه من قوة خارقة وهي الإله، وأن هذه النفس تتميز بالخلود، إذ في اللحظة التي ينتهي فيها الإنسان تغادره نحو الكائنات الأخرى بمختلف أنواعها كي تعود للإنسان مرة أخرى. والحال أن هذه الرحلة تستغرق 3000 سنة بين البداية والنهاية التي تعقبها بداية أخرى.

لذا يدعونا فيتاغورس إلى العمل على تهذيب الروح سواء من خلال منع أكل اللحوم ومشتقاتها، أو عن طريق الانصات التأملي للعالم بواسطة الموسيقى التي تغذي فينا الإحساس بالشبع الروحي. ومن جانب آخر يفسر الفيتاغوريون كثرة وتعدد أشياء الكون إلى وحدة أولى وهي الإله.

القسم الثاني وهو الأهم يتعلق بالرياضيات ليس كعلم فحسب، وإنما كأصل لكل شيء، وفي هذا الصدد قسم الفيتاغوريون الأعداد إلى ما هو زوجي وما هو فردي، العدد الزوجي يتميز بكونه لا محدودا عكس العدد الفردي فهو محدود بما أنه لا يقبل القسمة على اثنين، إلا أن الأمر لا يقف عند هذا الباب بقدر ما أنه يؤثر على القيم الأخلاقية، فالخير مثلا محدود بينما الشر لامحدود.

انطلاقا من العلاقة بين المحدود واللامحدود ثم الخير والشر، وضع الفيتاغوريون نظام بناء العالم على ما هو ثنائي ـ وهو للإشارة نظام قائم في بنية التفكير الإنساني لحد اليوم رغم المحاولات التقويضية له سواء من طرف نيتشه أو فرويد أو دولوز ـ إلا أن هذه الثنائية تقف بعدئذ عند العدد 10 لأنه حسب الفيتاغورية فهو أرقى وأتم وأقدس الأعداد. العالم إذن مزيج بين عشرة ثنائيات متناقضة كالخير والشر، الذكر والأنثى، اليمين واليسار، النور والظلام.

عمل الفيتاغوريون على تجسيد الأعداد في الأشكال الهندسية التي نجدها على مستوى واقعنا الملموس، كل الأشياء التي تحفنا لابد أن تتجسد على شكل هندسي مهما كانت طبيعتها، من ثمة أقرت المدرسة الفيتاغورية بضرورة الانتباه إلى أن العدد ليس مجردا وإنما مجسد أمام الأعيان. هكذا فالعدد واحد تقابله النقطة والعدد اثنان الخط والعدد ثلاثة السطح.

أما من جانب آخر فإن للأعداد قيما أخلاقية أيضا. العدد 10 هو أكمل الأعداد كما قلنا لأن كل ما يأتي بعده ليس سوى تكرار لما قبله، كما أنه هو حاصل جمع الأعداد الأربعة الأولى، وبدوره يتميز العدد اثنان بكونه العدد الوحيد الذي تكون له نفس النتيجة سواء في حال ضربه مع نفسه أو جمعه معها.

للمدرسة الفيتاغورية قولا مهما في الفلك مفاده أن عالمنا يتكون من عشر كرات تتوسطهم واحدة مشكلة من النار، بينما تدور حولها البقية وهي الكواكب المعروفة آنئذ إضافة على الشمس والقمر وفلك النجوم الثابتة، علما أن حركة هذه الكواكب تشبه إلى حد كبير السلم الموسيقى وفي هذا الأمر إشارة إلى مبدأ الانسجام الذي يسكن العالم، فالأرض مثلا تنتج نغما موسيقيا بما انها تتحرك بينما فلك النجوم الثابتة لا ينتج أي نغم بما أنه ثابت، أما الاجرام الأخرى فإن لها أنغاما تختلف سواء باختلاف قربها او بعدها عن المركز أو من خلال السرعة التي تسير بها أيضا ـ وهي للإشارة أنغام لن يتم إدراكها إلا عن طريق التأمل الخالص ـ والحق أن النظر الفلكي الفيتاغوري لم يزُل تأثيره لحد الساعة، حيث بقي الحساب الدقيق محافظا على القياس العددي للكواكب، بل إن كبلر نفسه لم يعمل في نهاية المطاف سوى على تأكيد تصور الفيتاغورية وإن أخرج هذا التصور من جانبه الصوفي إلى الرياضي عن طريق معادلاته الثلاث الشهيرة.

نفس الشيء نجده مثلا لدى الفيزيائيين المعاصرين الذين تبعثرت حساباتهم الفلكية بسبب تذبذب حركة عطارد بما أنه يخالف الانسجام الفيتاغوري بخصوص حركة الكواكب حيث اعتبر دورانه بمثابة حالة شاذة لأنها خارج كل حساب دقيق.

لقد تمكنت الفيتاغورية إذن من أن تترك أمامنا إرثا علميا صرفا لم يقتصر على شكل وحيد من أشكال المعرفة بقدر ما اهتم بما لا يمكن جمعه في سلة واحدة كالموسيقى والتصوف والرياضيات والفلسفة والفلك والأخلاق.. لهذا لا يمكن إلا ان نعتبرها حركة موسوعية بلغة زمننا لكنها للأسف لم تترك لنا إرثا مكتوبا كان بإمكانه أن يفتحنا أكثر على مدرسة مبهرة دون مبالغة أو تضخيم.