هل شكوى المغاربة من اتفاقيات التبادل الحر مبررة؟

المصطفى أزوكاح

من منكم يعتبر أن اتفاقيات التبادل الحر مفيدة للمغرب؟ سؤال طرحه عبد الفتاح السجلماسي، الأمين العام السابق للاتحاد من أجل المتوسط، على مشاركين في ورشة حول التبادل الحر، في قاعة تضم حوالي خمسين من رجال الأعمال والخبراء، فأجاب حوالي 15 منهم بالإيجاب برفع الأيدي.

كان ذاك السؤال الأول، تلاه سؤال ثان: من منكم قرأ اتفاقيات التبادل الحر؟ لم يرفع أي من الحاضرين يده، ليتجلى أن الكثير من المواقف السلبية من تلك الاتفاقيات التي تجاوزت الخامسة والخمسين، تأتي من هواجس وانطباعات وتخوفات لا يسلم منها حتى رجال أعمال  يقرون، في غالب الأحيان، بأن العرض التصديري للمغرب غير كاف وغير متنوع وغير تنافسي من أجل ولوج أسواق بمليار مستهلك في البلدان التي يرتبط معها المغرب باتفاقيات التبادل الحر.

شكاوى.. ولكن

يشتكي أمين البارودي، رئيس Société Impériale des Thés et Infusion، من العوائق التي يجدها من أجل ولوج السوق الأوروبية، فبعدما كان يوصل صادراته في ظرف 3 أيام، أضحى يجد العديد من المشاكل من أجل العبور عبر ميناء الجزيرة الخضراء، حيث تعطل الشاحنات لمدة أسبوعين أو شهر في بعض الأحيان، بسبب المراقبة.

وعندما أراد الولوج عبر ميناء لوهافر أو مارسليا، أفلح في ذلك، حيث كانت العملية سلسة في البداية، قبل أن يصادف  المشاكل ذاتها التي تفاداها في إسبانيا.

المستثمر ذاته يتحدث عن العوائق التي تضعها أمامه السلطات التركية، حيث تطالبه بالكثير من الوثائق، التي يصعب في بعض الأحيان توفيرها.

ذلك مستثمر يصدر مشتقات الشاي الفاخر، غير أن الكثير من الشكاوي تصدر عن المنتجين المحليين، الذي يعتبرون أن شركاء للمغرب في إطار اتفاقيات التبادل الحر، يعمدون إلى ممارسات منافسة شرسة، مثل الإغراق، ما يلحق بهم ضررا كبيرا. هذا ما كان اشتكى منه المنتجون المحليون والألبسة عندما يتحدثون عن صادرات الأتراك، ما دفع السلطات العمومية إلى اتخاذ تدابير وقائية عبر إخضاع ملابس ومنسوجات متأتية من ذلك البلد لرسوم جمركية لثلاثة أعوام، كما اتخذت تدابير وقائية في ظل الشكوى التي عبر عنها منتجو الدفاتر من الواردات الآتية من تونس.

لا يكف منتجون محليون في المغرب عن الشكوى من المنافسة التي يتعرضون لها من الواردات الآتية من بلدان يرتبط معها المغرب باتفاقيات للتبادل الحر، هذا في الوقت الذي يشير مراقبون إلى كون المملكة لا تتوفر سوى على 5000 مصدر، بينما يتجاوز المستوردون 12 ألفا. مستوردون يغذون الأسواق بسلع من أسواق مثل الصين وتركيا، وعندما تسأل تجار في سوق القريعة مثلا، يؤكدون لك أن السوق الشهير يستقبل الملابس التركية والصينية فقط، وتلك التي تحمل أسماء ماركات عالمية تخضع للتزييف في معامل القطاع غير المهيكل، في غياب سلع تحمل اسم "صنع في المغرب".

في ظل هذا السياق، يؤكد وزير الصناعة والتجارة والاقتصاد الرقمي، مولاي حفيظ العلمي، على استعداد المغرب لحماية مصالح الفاعلين المغرب ضد كل اعتداء غير عاد، مؤكدا على أنه عندما تمت ملاحظة وجود إغراق للسوق بالسلع التركية والتونسية، تحركت وزارة الصناعة والتجارة بمعية وزارة المالية وإدارة الجمارك، من أجل توقيف الاستيراد والدخول في معركة مباشرة مع البلدين بسبب المنافسة غير الشريفة، غير أنه في الوقت الذي يشدد على حماية الفاعلين ضد خرق قواعد التبادل الحر، يؤكد على أن المغرب لن يحمي الشركات الفاشلة.

عجز مع الصين كذلك

لاتوقف العجز التجاري للمغرب عن التدهور فقد قفز في العام الماضي إلى 204,4 مليار درهم، حسب مكتب الصرف، وذلك بعد بلوغ الواردات 478.مليار درهم واستقرار الصادرات في حدود 274,2 مليار درهم.

ويعاني المغرب من عجز تجاري مع الاتحاد الأوروبي، في حدود 90 مليار درهم في العام  قبل الماضي، وهو عجز بلغ 35 مليار درهم مع الصين و12 مليار درهم مع تركيا.

عندما تتحدث لطيفة بوعبداللاوي، مديرية العلاقات التجارة الدولية بوزارة الصناعة والاستثمار والتجارة والاقتصاد الرقمي، عن اتفاقيات التبادل الحر، تشير إلى أن العجز مع البلدان والفضاءات التي يرتبط بها المغرب يمثل حوالي 50 في المائة، غير أنها تؤكد على أن حوالي نصف الواردات المسببة للعجز يصعب الضغط عليها، مثل البترول ومواد التجهيز ومدخلات والمنتجات الغذائية.

مسألة العجز التجاري الذي تساهم فيه اتفاقيات التبادل الحر يعزوها المشتكون منها إلى الممارسات التي تخالف مقتضيات منظمة التجارة العالمية عبر الإغراق مثلا أو العوائق التي يصادفونها عند الرغبة في الولوج إلى أسواق يرتبط معها المغرب باتفاقيات التبادل الحر، كما يحدث مع الاتحاد الأوروبي أو تركيا، غير أن يونس زريكم، من مجموعة بوسطن للاستشارة، يعتبر أنه إذا كانت هناك شكوي من اتفاقيات التبادل الحر، فلا يجب إغفال أنها ساهمت في تعزيز جاذبية المغرب، فقد ساعدت على استقطاب مستثمرين مثل "رونو"، التي تنظر إلى المنطقة التي يرتبط معها المغرب باتفاقيات مثل اتفاقية أكادير التي تتيح الولوج إلى أسواق بلدان عربية، بالمقابل يتصور أن الاتفاقية المبرمة مع تركيا لم تفض إلى جذب استثمارات مهمة إلى المغرب من ذلك البلد، باستثناء استثمارات تشكل نوعا من المنافسة لمنتجين محليين.

غير أنه إذا كان المغرب يوفر عبر اتفاقيات التبادل الحر أسواقا تحتضن مليار مستثمر، فهل يوفر المنتجون المحليون عرضا تصديريا يتيح له خفض العجز التجاري الذي يعاني منه؟ إذا  كان عجز المغرب مرتفعا مع البلدان والفضاءات التي يرتبط معها باتفاقيات للتبادل الحر، فإن العجز التجاري للمغرب مع الصين التي لا ترتبط معها بأية اتفاقية للتبادل الحر يمثل 20 في المائة من العجز التجاري الكلي، كما تؤكد لطيفة بوعبد اللاوي. هذا يؤكد ما دأب العديد من الخبراء والمؤسسات على التشديد عليه من كون اللوم لا يجب أن يوجه للمصدرين الأجانب فقط.

فقد خلصت دراسة لمديرية الدراسات والتوقعات المالية التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية إلى الطابع البنيوي للعجز التجاري، يتجلى على مستوى محدودية حجم المنتجات المصدرة من قبل المملكة، ما يفضي بها إلى ملاحظة أن العوامل المرتبطة بالتنافسية، خارج التكاليف، تعتبر حاسمة التأثير على العرض التصديري وربح حصص في السوق.

الرأي ذاته ينتهي إليه تقرير للمركز المغربي للظرفية، الذي يوضح أن العرض التصديري المغربي يبقى محدودا وغير متنوع وذا محتوى تكنولوجي ضعيف، فهو مشكل، بشكل أساسي، من منتجات ذات قيمة مضافة ضعيفة تتمحور حول أنشطة تقليدية مثل المنتجات الغذائية ونصف المصنعة والمنتجات المنتهية الصنع الموجهة للاستهلاك والمنتجات نصف المصنعة الموجهة للتجهيز.

من وحي التجربة.. رأي مفاوض 

عندما يدعو العيد المحسوسي، الكاتب العام السابق لوزارة التجارة، الرئيس الحالي للجنة التجارة والاتفاقيات التجارية الخارجية بالاتحاد العام لمقاولات المغرب، الذي خبر مفاوضات اتفاقيات التبادل الحر، خاصة أنه قاد تلك الخاصة بالتبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلى نوع من الموضوعية عند السعي إلى تقييم تلك الاتفاقيات، يشدد على ضرورة الوقوف على مدى تطبيقه تبعا للمقتضيات التي تضمنتها، غير أنه يشير إلى أن بعض الصعوبات المرتبطة بالاتفاقيات لها علاقة بعوامل داخلية.

يسلم العيد بالعجز التجاري الناجم عن اتفاقيات التبادل الحر التي انخرط فيها المغرب، غير أنه يبدي ملاحظات دالة، فـهو يشير إلى أن 42,3 في المائة من الصادرات الأوروبية نحو المغرب تتم في إطار الامتيازات التي تمنحها الاتفاقية التجارية بين الطرفية، بينما 57 في من تلك الصادرات تنجز خارج تلك الامتيازات؛ أي في إطار النظام العام، أي الرسوم الجمركية العادية، مؤكدا أن ذلك لا يجد تفسيره فقط في القبول المؤقت.

لا يقتصر ذلك على العلاقات التجارية مع الأوروبين، بل تمتد إلى اتفاقيات أخرى، فالواردات من الولايات المتحدة تتم في حدود 46 في المائة في إطار اتفاقية التبادل الحر مع ذلك البلد، بينما تنجز نسبة 53 في المائة في إطار النظام العام. ويسري ذلك كذلك على الاتفاقية السارية مع تركيا، حيث تصل النسبتان، على التوالي، إلى 67 و33 في المائة.

رغم تلك الملاحظات التي تبرئ نسبيا اتفاقيات التبادل الحر من العجز التجاري المزمن مع شركاء المغرب، يتساءل حول القدرات الإنتاجية للمغرب، ملاحظا أنه كان هناك نقص في إطلاق المخططات القطاعية، مثل تلك المتعلقة بالفلاحة والصناعة، بالتوازي مع مسلسل تحرير التجارة في إطار اتفاقيات التبادل الحر، ويضرب مثلا باتفاقية التجارة مع الاتحاد الأوروبي، فقد وقعت في 1996، ودخلت حيز التنفيذ 2000، لتمنح فترة 10 أعوام من أجل التفكيك الشامل للجواجز الجمركية وخلق منطقة للتبادل الحر.

يستفاد من حديث المحسوسي أن تأهيل الترسانة الإنتاجية لم يواكب بشكل متواز تحرير التجارة في إطار الاتفاقيات، في نفس الوقت الذي يشدد على أنه لم تتم مواكبة الشركات بما يكفي من أجل استيعاب ما يفرضه المعطى الجديد، ثم إنه يشير إلى أن السلطات العمومية انخرطت في سياسة عمومية تقوم على تشجيع الاستهلاك، ما يعني استيرادا أكثر.

رغم ذلك يتصور فاعلون مغاربة أن ثمة بعض التفاصيل التقنية لم يتم التشديد عليها من قبل المفاوضين المغاربة، ويذهب آخر إلى درجة إشراك الفاعلين الاقتصاديين في مسلسل المفاوضين ضعيف إلى درجة تدفع بعض القطاعات المعنية بالاتفاقيات لا تتفاعل عندما يطلب منها رأيها، كما أن بعض الاتفاقيات تمليها اعتبارات سياسية أكثر منها اقتصادية، ما يجعل الفاعلين يسلمون بها.

تقر عبد اللاوي بأن بعض الاتفاقيات جرى الانخراط في المفاوضات بشأنها دون إعداد كبير، فلم تكن دراسات تأثيراتها كافية ومحيطة، كما أن التتبع لم يكن كافيا، غير أنها تؤكد على التواجه نحو تجاوز ذلك النقص عبر قانون التجارة الخارجية.

البحث عن عقيدة جديدة

ينتظر، حسب لطيفة بوعبداللاوي، مديرية العلاقات التجارة الدولية بوزارة الصناعة والاستثمار والتجارة والاقتصاد الرقمي، أن يعقد اجتماع المسؤولين الحكوميين والمسؤولين عن التجارة الخارجية بالاتحاد العام لمقاولات المغرب، من أجل تحديد تصور حول ما يجب أن تكون عليه اتفاقية التبادل الحر، وتوضيح عقيدة المغرب في هذا المجال، في ظل ما تؤكد عليه من خطر فقدان المغرب لامتيازاته التنافسية لفائدة بلدان أخرى مماثلة ومنافسة، بسبب عدم إبرام اتفاقيات جديدة مع فضاءات اقتصادية أخرى.

ذلك هاجس يسكن الكثير من المؤسسات التي تلاحظ ضعف حصيلة اتفاقيات التبادل الحر التي انخرطت فيها المملكة، فقد أوصت مديرية الدراسات والتوقعات المالية التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية في دراسة سابقة لها بـ"العمل على مراجعة شاملة لاتفاقات التبادل الحر المبرمة، والبحث عن السبل الكفيلة بإعادة التوازن للعلاقات التجارية مع أهم الشركاء".

وشددت على ضرورة دعم ترسانة الحماية التجارية، بما يساعد على محاربة المنافسة غير المشروعة، خاصة عبر المراقبة على الحدود لمواجهة التهريب والتصريحات غير الحقيقية والغش، معتبرة أن ذلك من شأنه أن يحافظ على سلامة السوق المحلين بالموازاة مع تبني مقاربة جديدة في مجال إبرام اتفاقات التبادل الحر، عبر التوجه إلى تبني اتفاقات مع مجموعات إقليمية، مقارنة بالاتفاقات الثنائية، بما يفضي إلى تفادي الصدمات التنافسية.

غير أن تغيير عقيدة المغرب في مجال إبرامم اتفاقيات التبادل الحر لا يكفي على اعتبار أنه يفترض مواكبة ذلك بتوفير عرض تصديري ومحلي، عبر  تسريع التحويل الهيكلي للنظام الإنتاجي، بهدف دعم التخصص الاقتصادي، بما يساهم في مواجهة التحديات التنافسية. هذا هدف، ترى الدراسة، أنه يستدعي ربط الاستراتيجية الصناعية بالسياسة التجارية وتلك الرامية إلى جذب الاستثمارات الخارجية، حسب مديرية الدراسات والتوقعات المالية التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية.

القراءة في انتظار العقيدة

لكن في انتظار بلورة العقيدة الجديدة وتأهيل القدرة الإنتاجية لتنويع العرض التصديري، يوجه سعيد الهاشمي، مستشار العلاقات الخارجية بمنظمة التجارة العالمية، من يهمهم الأمر بالمغرب إلى بعض المداخل التي يمكن أن تساعدهم على التوفر على حضور وازن في تلك المنظمة والاستئناس بطرق معالجة النزاعات، يضرب مثلا بتركيا التي انتدبت مسؤولا بمرتبة سفير بالمنظمة، حيث لا تغيب عنه أية نازلة تعرض على آلية معالجة النزاعات، ناهيك عن استعانة ذلك البلد بفريق من رجال القانون والمحامين الذين خبروا جيدا قضايا التجارة العالمية، حيث تعين السلطات العمومية والقطاع الخاص بخدماتهم. هذا ما لايحدث في المغرب، فيونس زريكم يلاحظ أن القطاع الخاص لا يتحمس بتمويل خدمات جماعات الضغط أو محامين عندما يتعلق الأمر بقضايا تهم قطاعاتهم التي لها أبعاد دولية.

ذلك يدفع عبد الفتاح السجلماسي إلى تقديم ثلاث توصيات؛ الأولى تهم حسن قراءة اتفاقيات التبادل الحر، فقد يكتشف فيها الفاعل الاقتصادي تفاصيل يمكن أن تساعده على تجاوز بعض العراقيل التي تصادفه في أسواق الشركاء، والثانية تشدد على ضرورة التوجه نحو الانتقال من مفهوم اتفاقيات التبادل الحر إلى اتفاقيات اقتصادية شاملة، والثالثة تتعلق باستثمار ما يتيحه الإنترنيت من إمكانيات من أجل التواصل حول الجوانب المتصلة باتفاقيات التبادل الحر.

وفي الوقت الذي يتحدث فاعلون اقتصاديون مغاربة عن جهلهم بسياقات المفاوضات ومحتوى الاتفاقيات، أخبرت المسؤولية عن التجارة في بعثة الاتحاد الأوروبي بالرباط، ميكايلا دوديني، عن إطلاق المفوضية الأوروبية لاستشارات عمومية، يطلب فيها من مواطنين وشركات ومنظمات المجتمع المدني تقديم الرأي حول الشق التجاري في اتفاق الشراكة مع ست دول من بينها المغرب، وهي آراء ستؤخذ بعين الاعتبار  في عملية تقييم العلاقات التجارية مع المملكة. ذلك النوع من الاستشارة لتقييم اتفاقيات التبادل الحر غير شائع في المغرب.