"البعثة الفرنسية" في المغرب تكرس فكرا استعماريا

تيل كيل عربي

قدمت النائبة الفرنسیة سامانتا كازبون، مدیرة سابقة لمدرسة فرنسیة بالمغرب، یوم 4 فبرایر 2019 إلى رئیس الوزراء الفرنسي تقریرا وازنا عن مستقبل التعلیم الفرنسي في الخارج. ویقدم هذا التقریر توصیات تهدف إلى "إدخال دینامیة جدیدة في التعلیم الفرنسي في الخارج" ویعلن أن شبكة التعلیم الفرنسیة في الخارج "في خدمة فرنسا والشعب الفرنسي، الیوم وغدا".

من منظور أوسع، تثیر هذه الإرادة السیاسیة أسئلة عدیدة، اذ تعتبر شبكة المؤسسات التعلیمیة الفرنسیة في المغرب واحدة من أوسع الشبكات التعلیمیة الفرنسیة في العالم، فهي تضم أكثر من أربعین مدرسة مع عشرات الآلاف من التلامیذ المغاربة. والمغرب یحتاج الیوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى نخبة تكون في خدمته، بدل أن تكون في خدمة بلد أجنبي، خاصة وهو قوة استعماریة سابقة.

بالطبع، لا یذكر هذا التقریر العلاقة الوطیدة بین تاریخ الاستعمار وبین التعلیم الفرنسي في الخارج. لإعطاء مثال موجز، فإن ثانویة لیوطي (Lycée Lyautey)، المدرسة الثانویة الفرنسیة الرئیسیة في الدار البیضاء، باسمها (اسم أول مقیم عام فرنسي في المغرب) وتاریخ إنشائها (1921) تحمل طابع الحمایة الفرنسیة.

یظل تاریخ ما یسمى بـ"البعثة الفرنسیة" بالمغرب موضوعا معقدا لم یتم التطرق إلیه إلى حد كبیر. ولكن هناك ما هو أبعد من تاریخ هذه البعثة، وهو التطلع على حاضرها. ألم یحن الوقت للتساؤل حول شرعیة نظام تعلیمي یكون طبقة اجتماعیة تتباعد قیمها عن مصالح المغرب؟

أصل النظام التربوي الفرنسي في الخارج

یجب، أولا، التطلع باختصار على أصل التعلیم الفرنسي في الخارج. إن عبارة "البعثة الفرنسیة" (Mission française) تذكرنا بعبارة "البعثة الحضاریة الفرنسیة" (Mission civilisatrice française)، التي كانت بمثابة الأساس الأیدیولوجي للتوسع الاستعماري الفرنسي. لخص جول فیري (Jules Ferry) مبادئ هذه الأیدیولوجیة في خطاب مشهور سنة 1885: "للأجناس السامیة حق بخصوص الأجناس البدائیة ... لأن لها واجب ألا وهو واجب تحضیر هذه الأجناس البدائیة". كان التعلیم البعثي في ذلك السیاق أداة للواجب الحضاري، والذي هو في حد ذاته مقابِلا للحق اقتصادي: السیطرة على الموارد الأساسیة في الأراضي المستعمرة وإنشاء منافذ اقتصادیة جدیدة.

تعتبر "البعثة العلمانیة الفرنسیة" (Mission Française Laïque) أحد أبرز ممثلي التعلیم الفرنسي في المغرب. تأسست هذه المنظمة سنة 1902 واعترف بدورها الاجتماعي سنة 1907. وتشكل مدارس مثل ثانویة لویس ماسینیون (Lycée Louis Massignon) في الدار البیضاء أو ثانویة أندریه مالرو (Lycée André Malraux) في الرباط جزًءا من شبكتها التعلیمیة الواسعة. لقد تم إنشاء البعثة العلمانیة الفرنسیة على أساس مفهوم البعثة الحضاریة.

یذكر كتاب نُشر بمناسبة الذكرى المئویة للبعثة العلمانیة الفرنسیة سنة 2002 -"البعثة العلمانیة الفرنسیة عبر تاریخها"- التشابك بین التعلیم الفرنسي في الخارج في بدایة القرن العشرین وسیاسة التوسع الاستعماري الفرنسي: "في ذهن مؤسسي [البعثة العلمانیة الفرنسیة]، یظهر أن العمل الاستعماري للجمهوریة الفرنسیة لا ینفصل عن عملها التربوي".

بالطبع، تطورت البعثة العلمانیة الفرنسیة وهیئات أخرى مع مرور الوقت، لكن هذا التطور لم یمحو أصلها الاستعماري. لازالت هذه الشبكات وهذه الهیئات خاضعة لمنهج تثاقفي. من هذا المنطلق، یمكن للمرء أن یعتبر أن البعثة الفرنسیة أحد مخلفات العصور الاستعماریة.

المنهج التثاقفي

یؤدي المنهج التثاقفي إلى اغتراب ثقافي للتلامیذ المغاربة الذین یدرسون في مؤسسات البعثة الفرنسیة وهم یعیشون في أرض بلادهم. اذ یتحدث العدید منهم اللغة الفرنسیة فقط لا الدارجة الغربیة. ویعتبر إتقان اللغة العربیة الفصحى في هذه المؤسسات بمثابة الشيء الشبه المستحیل حیث أن منهج البعثة الفرنسیة یشجع ضمنیا نوعا من التفوق الإیدیولوجي والسلوكي للغة الفرنسیة على اللغة العربیة.

لقد عقدت سنة 2000 اتفاقیة حول تدریس اللغة العربیة في المدارس الفرنسیة في المغرب، بهدف إجبار المؤسسات التعلیمیة الفرنسیة على توفیر تدریس "اللغة والثقافة العربیة" للتلامیذ المغاربة. لكن هذا الاتفاق لم یحقق مبتغاه تماًما. إذ یسود نوع من الأمیة، عندما یتعلق الأمر بالعربیة الفصحى:  فالكثیر من التلامیذ لا یجیدون قراءة وكتابة اللغة التي یعتبرها الدستور المغربي لغة رسمیة للدولة. هناك بالطبع استثناءات: یسمح للتلامیذ بالاستفادة من برنامج اختیاري (Option internationale ou Bac) یكرس ساعات أكثر لتعلیم اللغة العربیة ولدروس التاریخ والجغرافیا باللغة العربیة، مع مزید من الانفتاح على تاریخ المغرب.

ومع ذلك، فهذه لیست للأسف سوى استثناءات: هذا البرنامج لا یختاره عموما إلا التلامیذ الذین لا ینضمون إلى التعلیم الفرنسي إلا في مرحلة متأخرة نسبیا (المستوى الإعدادي أو الثانوي)، وبالتالي لهم معرفة سابقة بقواعد النحو في اللغة العربیة الفصحى.

هذا الاقتلاع الثقافي یتجاوز اللغة. إنه یؤثر على جمیع جوانب التربیة: مع بعض التعدیلات الهامشیة، فإن المناهج الدراسیة هي تلك التي یتم تدریسها في المدارس العمومیة في فرنسا. یعرف التلامیذ المغاربة في هذه المؤسسات حیاة لویس الرابع عشر أحسن مما یعرفون حیاة مولاي إسماعیل، وفهمهم لجغرافیة فرنسا وأوروبا أفضل من فهمهم لجغرافیة المغرب وأفریقیا، أي جغرافیة بلادهم وقارتهم.

لا یمكن لهذا التثاقف الخفي إلا إن یؤثر على الإحساس بالانتماء إلى الوطن. كیف یمكن للمرء أن یكون جزًءا مندمجا من وطن كیف ما كان إذا كان یجهل لغاته الرسمیة ولهجاته وتاریخه ورموزه؟ علینا أن نتذكر أن التثقیف أحد الأدوات التي استعملها المستعمر الفرنسي لضمان استقرار نموذجه الاستعماري. حیث كان یهدف إلى خلق سیطرة مزدوجة، ترتكز على تربیة نخبة محلیة، مخلصة للسلطة الاستعماریة ومسؤولة عن دعم مصالحها الاقتصادیة. هذا الغرض لم یختف تماما. في الواقع، یجعل تقریر كازبون الذي یستعمل مفرد "القوة الناعمة" (Soft power) هذا الغرض أحد أهداف التعلیم الفرنسي في الخارج: "في العدید من عواصم العالم، تختار الأسر ذات النفوذ أن تعهد فرنسا بتعلیم أبنائها ... التلامیذ السابقین یحافظون على العلاقات الاقتصادیة مع فرنسا في بلادهم. لقد تلقوا في تربیتهم جزءًا من فرنسا وردود أفعال تربطهم بـ[ها]".

مدرسة لیست مفتوحة للجمیع

من مفارقات البعثة الفرنسیة أنها لا تعكس قیم المدرسة العمومیة الفرنسیة. بینما تحاول هذه الأخیرة تأسیس نوع من المیریتوقراطیة وتشجیع التنوع الاجتماعي، فإن التعلیم الفرنسي في المغرب یعزز الطبقیة الاجتماعیة.

یحل محل المنطق المیرتیوقراطي الفرنسي منطق إعادة الإنتاج الاجتماعي. الرسوم الدراسیة في مؤسسات البعثة الفرنسیة باهظة الثمن. یمكن أن تصل إلي 64.000 دراهم سنویا، أو أكثر من 7.000 دراهم شهریا، في حین أن الحد الأدنى للأجور في المغرب لا یتجاوز 2.600  دراهم شهریا. من الصحيح أن بعض الأسر التي تعتبر نفسها جزئا من "الطبقة الوسطى" تنجح أحیانا في تسجيل أبنائها في هذه المدارس. لكن هذا غیر ممكن إلا بواسطة تضحیات مالیة كبیرة. والأكثر من ذلك، فإن معظم المغاربة یعتبرون أن هذه العائلات ممیزة جدا. وبالتالي فإن المدرسة الفرنسیة في المغرب لیست مفتوحة إلا لمن هم أغنى. بعبارة أخرى، یعیش أطفال طبقة متمیزة في المغرب في شرنقة ذهبیة یختفي فیها واقع بلادهم عندما یتم تغلق بوابة المدرسة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن نموذج البعثة الفرنسیة لا یحترم القیم الدیمقراطیة الفرنسیة. ولعل هذه أعمق المفارقات هنا: التمزق الاجتماعي المغربي الناجم عن هذا النظام یتطابق بشكل تام مع المنطق المخزني الذي یرمي إلى تفریق مختلف الطبقات الاجتماعیة والاقتصادیة المغربیة. إنه یدیم منطق "الحڭرة" التي تسیطر من خلاله طبقة مهیمنة، تتحدث بلغة المستعمر السابق، على طبقات اجتماعیة خاضعة تبقى على هوامش التقدم الاقتصادي المغربي. وینعكس هذا في لغتنا الشعبیة التي تفرق بین "ولاد لامسیون"، أي أبناء البعثة الفرنسیة و"ولاد الشعب"، أي أبناء الشعب. هناك بالتالي تفریق بین أولئك الذین یجب علیهم أن یكونوا متشابهین فإنهم، أولا وقبل كل شيء، أبناء المغرب.

نحو إنهاء استعمار العقول؟

لا یتعلق الأمر بإلقاء اللوم على العائلات أو التلامیذ. في الواقع، یجب التساؤل حول حقیقة التعلیم بالمغرب. یرجع تدفق التلامیذ المغاربة على النظام التعلیمي الفرنسي إلى فشل النظام التعلیمي المغربي. هذا الفشل عمیق: یصنف، مثلا، أحد تقاریر الیونیسكو الصادر السنة الماضیة (2018) النظام التعلیمي المغربي في المرتبة 129 عالمیا. في حین یحتل كل من النظامین التعلیمیین الجزائري والتونسي المرتبتین 93 و90 على التوالي.

التعلیم الفرنسي هو بدوره تعلیم جید، فشهادة البكالوریا الفرنسیة معترف بها دولیا اذ تسهل على التلامیذ المغاربة متابعة دراستهم في الخارج ویتم قبول العدید منهم لولوج مدارس فرنسیة أو جامعات أنجلوسكسونیة مرموقة. لكن لسوء الحظ، فإن هذه النجاحات لا تفید المغرب إلى أقصى حد ممكن.

للتعلیم تأثیر عمیق على السلوك الاجتماعي والسیاسي. الوعي السیاسي للمغاربة الذین تلقوا تعلیمهم في النظام الفرنسي موجه نحو قضایا لیست لها علاقة كبیرة بالمغرب. التوعیة المدنیة في المؤسسات الفرنسیة تعّرف التلامیذ المغاربة بالمؤسسات الفرنسیة وتتجاهل نسبیا المؤسسات المغربیة. ینتج عن ذلك أن جزء هام من النخبة المغربیة لا تهتم بالشؤون السیاسیة المغربیة.

هل هذا یعني أن هذا التمزق لا رجعة فیه؟ تحمل الطبقة المغربیة التي تحوم حول التعلیم الفرنسي مسؤولیة لم یسبق لها مثیل. یجب أن تعززعلاقتها بالمغرب ولغاته وثقافته، فلانفتاح على ثقافة الغیر لا یمنع المرء من إتقان ثقافته. هذا الجهد الفردي والجماعي هو جهد للتحرر من الشرنقة الثقافیة والاجتماعیة التي تعیش فیها هذه الطبقة. یجب على الجمیع، بمن فیهم التلامیذ السابقین، أن یعملوا على التخلي عن "ردود الفعل التي تربطهم بـ[فرنسا]" لصالح رد فعل وطني یربطهم بشدة ببلدهم، المغرب. هذه خطوة أساسیة في عملیة إنهاء استعمار العقول التي لم تنتهي بعد.

في الواقع، هناك شيء یجب أن یسود على تكریس هذا الفكر الاستعماري الخفي، وهو الشعور بالوحدة الوطنیة. یتجاوز هذا الشعور جمیع الانشقاقات ویحتضن جمیع الفئات الاجتماعیة. لقد لعب دورا مهما في مراحل مختلفة من تاریخنا: معارضة الظهیر البربري، استقلال المغرب، المسیرة الخضراء، وغیرها ... یتوقف مستقبل المغرب واستقراره على هذه الوحدة. إنه تحدي جیل وأمل شعب بأكمله.

حمزة ابن البشیر السبتي

طالب بكلیة هارفارد للحقوق