امتحان "الحوز" وما جاوره.. التاريخ يعيد نفسه!

أحمد مدياني
أحمد مدياني

قبل ست سنوات، عدت من مهمة إنجاز روبورتاجات عن تداعيات موجات البرد على سكان الجبال والمناطق المهمشة. كانت الوجهة، حينها، قمم إقليم ميدلت وما جاوره. خلال إنجاز العمل ميدانيا، خلصت إلى قناعة عبرت عنها وسط هيئة التحرير، مباشرة بعد العودة إلى الدار البيضاء، وهي: إلى متى سوف نستمر في اجترار نفس الموضوع بنفس زاوية المعالجة بينما الأوضاع تبقى على حالها؟!

نعم، استمرار المعاناة، كلما حل الخريف والشتاء، يفرض إثارة الموضوع والتنبيه إلى ما يعانيه السكان البعيدون عن المركز. لكني اقتنعت، بعد عشرات المهام ومئات الزيارات، أن معالجة الخلل يجب أن تمر، أولا وأخيرا، من وإلى المركز.

لماذا؟

شهر دجنبر من سنة 2006 نشرت جريدة "الأسبوعية الجديدة" خبرا عن وفاة عدد من الرضع بسبب البرد القارس بقرية "أنفكو" التابعة لجماعة "تونفيت" بقليم ميدلت. خبر استنفر الدولة ككل. قوبل حينها بالنفي من طرف السلطات، ومع ذلك، ولأن الأضواء الكاشفة سلطت تجاه القرية الصغيرة، لم تتوقف الأنباء عن تسجيل وفيات جديدة سببها دائما قساوة أحوال الطقس وغياب مرافق الرعاية الاجتماعية والصحية، وانقطاع السبل وسط تضاريس المنطقة.

هذه الأوضاع، نتجت عنها زيارة ملكية للمنطقة عام 2008. رافقها إطلاق المئات من المشاريع الهيكلية والتنموية والصحية والاجتماعية والاقتصادية وأيضا ما يهم البنى التحتية.

شهر شتنبر من سنة 2016، عدت إلى المنطقة رفقة القافلة السنوية التي كانت تنظمها جمعية "إيطو" لمكافحة تزويج القاصرات. كنت أشتغل خلال تلك الفترة صحافيا بيومية "أخبار اليوم".

مرت، حينها، قرابة 10 سنوات على زيارة الملك محمد السادس للقرية التي شغلت الرأي العام لسنوات، واستمرت في ذلك.

ومما نشرت في ملف أنجزته، حمل عنوان "المنسيون من رحمة الدولة"، أنه "تم تدشين مستوصفات صحية، ومدارس، وأيضا حجرات دراسية، ومسالك وطرق لفك العزلة، ومركبات اجتماعية وثقافية، غير أن الملايير التي صرفت عليها، وتدبج بها التقارير الرسمية، ذهبت سدى".

وذكرت في الملف أنه من "أصل 48 مستوصفا شيدت، فقط 8 تشتغل بشكل طبيعي، أما الأخرى، فإما أن المعلمين الذين اكتووا بلسعات البرد لجؤوا إليها، أو أن الكلاب استطونت مرافقها وجنباتها، بينما أكدت الإحصائيات والأرقام التي استقتها جمعية (إيطو) أن 80 في المائة من نساء تلك المناطق عشن تجربة فقدان واحد من مواليدهن خلال الوضع أو بعده بأشهر، بالإضافة إلى اللواتي فقدن حياتهن بسبب مضاعفاته".

وقفت خلال هذه المهمة على هول تبخر مشاريع ملكية رصدت لها مليارات الدراهم، وطرق وقناطر وكأنها شيدت من أجل "ديكور" فقط، لأنها لم تصمد طويلا في مواجهة العوامل الطبيعية للمنطقة.

كما ولجت مراكز وضعت أساساتها من أجل إخراج السكان من العزلة، لتظل خواء، بعدما انفض الجمع لحظة توثيق صور وفيديوهات وأخذ تصريحات التدشين!

واجهت عددا من المسؤولين المحليين بأسئلة تهم من يتحمل مسؤولية هذه الأوضاع؟ كيف يستطيعون القفز على حدث هز المغرب؟ أفرز حالات استنفار من أجل التنمية، وما تحقق منها لا يكاد يلامس ثلث أهدافها.

كان جوابهم أنهم "لا يملكون سلطة القرار والتنفيذ وأيضا المتابعة والمحاسبة لكل ما هو مرتبط بالمشاريع التي جاءت خلال تلك الحقبة الفارقة من الوضع بالمنطقة".

بدورهم، يعيدونك لتسائل المركز. تبحث عن مكامن الخلل من منبعها في العاصمة الرباط. هم بدورهم، وجدتهم مقتنعين، إلى جانب ضحايا الأوضاع هناك، بأن أهل الحل والعقد يملكون سلطة إنجاح المشاريع واستمرارها من خلف سماعات الهاتف. إن شاؤوا هم، كان للأرض وسكانها ما يجب أن يكون، وإن لم يشاؤوا، فإن كل ما يتقرر وينجز يصبح وكأنه لم يكن.

كل هذا، من أجل فهم ما يقع في كل شبر من المناطق التي ضربها الزلزال قبل أزيد من عام. حال ضحاياها سوف يستمر كما هو، إن لم تتخذ الرباط قرارات صارمة تنهي المعاناة وتعيد البشر، على الأقل، إلى ما بين أحضان الحجر.

ليس وحده "الحوز" وما جاوره يعكس انتكاستنا جميعا. بل كل كيلومتر مربع من مرتفعات المغرب وما يجاورها امتحان للوطن. اختبار للقرار بالمركز العاصمة لأجل هوامش طال مكوثها وسط دوامة تكرار نفس المشاهد كل سنة!

امتحان "الحوز" وما جواره هو جزء من فصول سيناريو مغربي يعيد فيه التاريخ كل مرة نفسه بطرق أشد مهزلة من التي تسبقها.