التجنيد الإجباري.. يوم وضع الحسن الثاني الخدمة العسكرية لتأديب الثائرين (شهادات)

جاسم أهداني

التجنيد الإجباري ..الخدمة العسكرية وسيلة لتأديب الثائرين (شهادات)في سنة 1966، أي سنة وحدة بعد الاضطرابات القوية لـ1965، فرض الحسن الثاني الخدمة العسكرية الإجبارية. كانت هذه وسيلة الملك الراحل لاحتواء الميول الاحتجاجية للشباب الذين كان يقودهم الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أوطم). هذه شهادات الرعيل الأول من المجندين.

في 20 غشت الماضي، تم الإعلان عن إعادة العمل بالخدمة العسكرية الإجبارية وتهم بالخصوص الشباب البالغين ما بين 19 و25 عاما، ذكور وإناثا. والهدف هو تحسين "الاندماج في الحياة المهنية والاجتماعية"، و"إذكاء روح الوطنية لدى الشباب"، حسب بلاغ للديوان الملكي.. ويأتي هذا القرار بعد أسابيع فقط على خطب ملكية شددت على أهمية الاهتمام بالشباب. ولكن البعض يرون في هذا الخيار وسيلة لاحتواء الميول الاحتجاجية للشباب، بل إجراء عقابيا جاء بعد العديد من الحركات الاجتماعية التي هزت المملكة مؤخرا، تماما كما فعل الحسن الثاني لما فرض التجنيد الإجباري بظهير ملكي عام 1966، عقب المظاهرات الدموية لـ23 مارس 1965.

ضرب "أوطم"

في تلك الفترة كان الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أوطم) في أوجه قوته وكان يسبب مشاكل كبيرة للنظام. لذلك كان قادة هذا التنظيم الطلابي من أوئل المجندين، إذ تم استدعاؤهم وإرسالهم إلى ثكنة الحاجب ثم إلى المدرسة العسكرية بـ"هرمومو" حيث سيخضعون لبرنامج تدريبي صارم طيلة 18 شهرا.
"كان هذا عملا ارتجاليا حيث كان النظام يسعى فقط لعقاب الشباب الذين برزوا في مارس 1965" يقول أحمد حرزني، الرئيس السابق للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، الذي كان ضمن أول فوج خضع للتجنيد الإجباري مابين 15 يوليوز 1966 و15 دجنبر 1967. وإسوة بعدد من زملائه التلاميذ والطلبة، لم يستفد حرزني من الإعفاء الذي يتضمنه الظهير الملكي. "الضابط بمكتب التجنيد مزق شهادتي للباكالوريا أمامي عيني، ونصحني بأن أتبخر بها" يضيف حرزني. وقد خضع هذا الفوج الأول في ظرف 18 شهرا لبرنامج الأكاديمية العسكرية "الدار البيضاء" بمكناس الذي يتطلب مبدئيا 4 سنوات.
الكاتب الطاهر بن جلون كان بدوره ضمن هذا الفوج، ويحكي في كتابه "العقاب" الصادر في فبراير 2018 (دار غاليمار) عن الكابوس الذي عاشه رفقة 93 طالبا آخر طيلة 18 شهرا التي قضوها في ثكنة الحاجب ثم بمدرسة "هرمومو": الجوع، البرد القارس، إساءات من كل الأصناف، ويقول صاحب رواية "ليلة القدر" "أردت أن أسرد حكايتي لأنني أريد أن يعرف شباب اليوم كيف كانت بداية سنوات الرصاص"، مضيفا أن "الأهم بالنسبة إلى سلطات تلك الفترة ليس إخضاعنا للتجنيد الإجباري، بل فقط توظيفه لعقابنا وإساءة معاملتنا". ويتابع الكاتب المغربي "لأنني تظاهرت من أجل قليل من الديمقراطية، تعرضت للعقاب. وطيلة شهور تحولت إلى مجرد رقم، 10366.. كل من كان يحمل الرقم الذي يبتدئ بـ10300 كان من مساخيط الملك".

وأد الحس الاحتجاجي

لما نقل مع رفاقه إلى مدرسة هرمومو، تنفس بنجلون الصعداء. "كان هذا تحسنا نسبيا في وضعنا. حصلنا على غرف لأربعة أشخاص بدل تلك القاعات الشاسعة التي تضم 90 مجندا"، بل إن صاحب الكونغور أخذ يتلقى دروسا، ولكن العلاقة مع العسكريين ظلت متوترة. "كان مدير المدرسة شخصا عنيفا، ظالما ودكتاتوريا، وكان يسعى بكل الطرق إلى تجريدنا من أي رغبة في المقاومة"، يقول بنجلون الذي يعتبر أن مروره بالثكنة كان يعني "عقابا شديدا حتى لا نرفع رؤوسنا مجددا وحتى لا تحذونا أي رغبة في الاحتجاج على أي شيء".
والمثير أن هذا الفوج الأول من الخاضعين للتجنيد الإجباري لم يضم الطلبة فقط، بل كان في صفوفه أيضا عدد من الموظفين، وأناس لهم وضعهم المستقر في الحياة، ولكن ذنبهم الوحيد أنه حامت شكوك حول ميولهم الثورية، مثل حالة أحمد حكيمي، أحد قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان موظفا كبيرا بوزارة الأشغال العمومية. فبعد أن رفض منصب الكاتب العام للوزارة بسبب انتمائه السياسي، تم استدعاؤه للقيام بالتجنيد الإجباري. ولم يكن أحمد الموظف الوحيد الذي أجبر على التخلي عن ربطة العنف وارتداء البزة العسكرية. إذا كان بينهم كذلك عبد الله البقالي، الذي كان مديرا لمعهد الزراعة والبيطرة بالرباط، وكاتبا عاما لوزارة الفلاحة في 1967، وسبق له أن رفض منصب مدير المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي بالغرب.

ظل الكولونيل اعبابو

إسوء بأحمد حرزني والطاهر بن جلون، خضع كل من عبد الله البقالي وأحمد حكيمي للإيقاع الجنهي وللصرامة العسكرية القاسية لسنوات الستينيات والسبعينيات. إذ لم يكن الكولونيل اعبابو، الذي اشتهر بعد قيادته للمحاولة الانقلابية ليوليوز 1971 بالصخيرات وكان يشرف على ثكنة الحاجب ومدرسة هرمومو، يتعامل بأي حس إنساني مع المجندين.
"بطبيعة الحال لم يكن أحد مطلع على مخططات رئيس الثكنة. كان فقط يبدو أنه حريص على الانضباط" يقول عبد الحميد أمين، الوجه الشهير الآخر لليسار المغربي، الذي خضع بدوره للتجنيد الإجباري بالحاجب.
فبعد عودته إلى المغرب للقيام بتدريب في المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي بالغرب، توصل أمين باستدعاء للالتحاق "فورا" بالجيش في 24 غشت 1966. "استدعوني لأنني كنت شاركت في فبرير في احتلال السفارة المغربية بباريس احتجاجا على نفي عدد من قادة أوطم إلى طان طان عقابا لهم على تنظيم مؤتمر حول الاستثمارات الأمريكية بالبلاد" يقول أمين.
وكان يتسابق مع اعبابو على شراء النسخة الوحيدة من "لوموند" التي تصل إلى الحاجب، ويحكي أن الكولونيل ضبطه مرة لدى بائع الجرائد فخاطبه قائلا "أمين، لقد خرجتَ من الثكنة بدون إذن، وبدون لباسك العسكري، وبقميص مفتوح، وتمارس السياسة.. التحق بمكتبي". طبعا توجه المسكين مرعوبا إلى مكتب الكولونيل الجهنمي، وكان يظن أن "الكاشو" في انتظاره. "ولكن تم حفظ القضية" يقول أمين قبل أن يضيف أن اعبابو كان يضع على مكتبه مؤلفات لـ"لينين" !

المجندون.. من السويس إلى الصحراء

تلاشت سمعة التجنيد الإجباري كـ"جامعة صغيرة" بعد المحاولتين الانقلابيتين لـ1971 و1972. "لقد أصبحت فرص الولوج إلى الجيش ضيقة، وتحت إشراف الدرك الملكي" يقول كولونيل متقاعد. ولم يعد الخاضعون للتجنيد الإجباري يكلفون سوى بمهام ثانوية، وكان عليهم بالخصوص إعطاء انطباع جيد لرؤسائهم على أمل الحصول على منصب في الجيش أو في الإدارة العمومية. ولكن حدثين مهمين أعادا الخدمة العسكرية الإجبارية إلى قائمة الأولويات.
ففي أكتوبر 1973، قرر الحسن الثاني دعم مصر وسوريا في حرب أكتوبر. "كنا في ثكنة مراكش لما طلب منا تشكيل أربعة كتائب والتوجه صوب صحراء سيناء وهضبة الجولان" يتذكر مولاي إدريس الراضي، الذي استدعي قبل سبعة أشهر من هذا التاريخ للخضوع للتجنيد الإجباري.
وبعد عشر سنوات، كان بناء الجدار الدفاعي بالصحراء فرصة جديدة لكي يبرز المجندون. إذ ساهموا بقوة ما بين 1987 و1989 في بناء هذا الجدار، وهو عبارة عن حواجز رملية وحجرية بطول 3 إلى 4 أمتار تمتد على طول 1000 كلم بالحدود الجنوبية الشرقية للمملكة التي كانت قبل ذلك فريسة لهجمات مقاتلي البوليساريو.
"لم نكن مسلحين ولكن كنا نسمع أصوات الاشتباكات بالجبهة" يقول مولاي حفيظ القاردي، الذي ألحق بمنطقة "الفارسية" على بعد 80 كلم من تندوف. وقد تم الاحتفاظ بهذا الشاب الحاصل على دبلوم في الهندسة الكهربائية من المكتب الوطني للتكوين المهني أربعة أشهر إضافية بعد انتهاء مدة تجنيده الإجباري. "انتهت مهمتنا مع الانتهاء من بناء الجدار، وقدوم القبعات الزرق الأممية لمراقبة وقف إطلاق النار الذي وقعه المغرب" يضيف هذا المجند السابق.