الطوزي: القصر فوق الأحزاب.. ولكن له أفضليات

بلال مسجد

في هذا الحوار يعود محمد الطوزي، عالم السياسة المغربي، إلى حصيلة 20 سنة من عهد محمد السادس، ويعطي رأيه في الأوضاع السياسية والمجتمعية بالمغرب، ومكانة الإسلاميين، والفصل 47 من الدستور.

كيف جرى إدماج الإسلاميين في اللعبة السياسية، بالخصوص منذ 2011؟

تم إدماج الإسلاميين بفضل قرار سياسي يعود إلى التسعينيات، وبسبب مسار خاص جدا نتج عن عدة توافقات، إذ أبدى الإسلاميون نوعا من الليونة. وهذا المسار، كما يعلم الجميع، يتجلى في "الحركة الشعبية الديمقراطية الدستورية" لصاحبها عبد الكريم الخطيب، الذي كان مقربا من القصر. ويبدو الأمر مثيرا للأهمية ويمثل حالة خاصة جدا مقارنة بالعالم العربي الإسلامي: النموذج الأقرب هو النموذج الأردني وإن لم يكن الأمر يتعلق حقا بنفس المسار.

يعتبر كل هذا نتاجا، في الآن نفسه، لقبول موازين القوى الذي أخذ يترسخ في المجتمع، حيث أفلح الإسلاميون في توظيف الإسلام السياسي، من جهة، وتطور الإسلاميين أنفسهم، إسوة بتطور جماعة "الإخوان المسلمون" التي تشكل قاعدتهم العقدية، من جهة أخرى. الأمر هنا يتعلق بتحديد ذاتي لمجال التأثير، واختيار الدوائر الانتخابية... إنها في الواقع هندسة كاملة من الإجراءات والخطوات مكنتهم من التأقلم مع اللعبة السياسية واكتساب قواعدها.

إنه تعُلُّم ضروري. فلا يجب أن ننسى أنه من الناحية السوسيولوجية، يعتبر هؤلاء نوعا ما غرباء (outsiders) عن الحقل السياسي المغربي، بما أنهم ينتمون إلى الطبقة المتوسطة الدنيا.

في 2011 ظهر عنصر جديد: دستور جديد، مصداقية أكبر للمسلسل الانتخابي، تغيير في طبيعة الناخبين، الذين صاروا حضريين أكثر. إنها، في المحصلة مجموعة من العناصر جعلت النظام (système) يأخذ بعين الاعتبار موازين القوى المنبثق عن صناديق الاقتراع.

مع ذلك، لم يكن هذا الأمر بديهيا، إذا أخذنا بعين الاعتبار السياق الخاص الذي وصلوا فيه إلى السلطة...

لم يجبروا أنفسهم على الوصول إلى السلطة. فقد كان في جعبتهم عقد من التجربة على مستوى البلديات، حيث شحذوا قدراتهم على التكيف مع القواعد، واكتساب الليونة أكثر من الأحزاب السياسية. لا أقول إنهم لم يكونوا مستقلين بل لهم قدرة باهرة على عقد التسويات. أعني هنا أن الوضع الجديد كان مؤسساتيا وليس سياسيا.

هل تغير الإسلاميون بعدما احتكوا بالسلطة؟

طبعا. وهذه قاعدة عامة في السياسة. فمواقف أي تنظيم سياسي تتغير وفقا لوجوده في المعارضة أم في السلطة(...).

لما يصل المرء إلى السلطة، يقف على الواقع المعقد، وعلى ضرورة التسويات والتنازلات. على مستوى الطاقم السياسي، تتغير الأمور، فأولئك الذين يتمتعون بالشرعية التاريخية، والمهارة الخطابية، يفقدون تدريجيا تأثيرهم. إلا إذا ما فصلوا بين الدعامة الإيديولوجية والطاقم السياسي الذي تسند إليه الوظيفة التدبيرية.

لما نطبق هذه القاعدة العامة على الإسلاميين، نلاحظ جيدا أن هناك فصلا بين الجبهتين: إبقاء "حركة التوحيد والإصلاح" على مسافة محترمة لكي jوضع فيها إيديولوجيو الحزب، وبالتالي الحصول على تنظيم له طابع سياسي.

ومجمل القول، إن حزب "العدالة والتنمية" شرع في الممارسة منذ 1997، في صفوف المعارضة، بأولى منتخبيه الذين كانوا كلهم من المنظرين الإيديولوجيين قبل أن يصيروا مع الوقت من محترفي السياسة. هذه حالة أسماء مثل: مصطفى الرميد، الإدريسي المقرئ أبوزيد، عبد الإله بنكيران.

"المجلس الوطني لحقوق الإنسان"، وهو هيأة حديثة نوعا ما، أصدرت تقريرا حول تعذيب معتقلي الحراك يشير مباشرة إلى جهاز الدولة، وهذا شيء عظيم

كثيرون يعتبرون أن القوس الذي فتح إبان الربيع العربي تم غلقه تدريجيا من طرف السلطة، ودليلهم: الخروقات على المستويين السياسي والحريات. ما رأيك؟

تلك آراء تعتبر اللعبة السياسية مسلسلا خطيا. والحال أنها ليست مسلسلا خطيا ينطلق من نقطة (أ) إلى (ب).. من مستوى للسلطة ليصل إلى الديمقراطية. الأمور لا تسير بهذه الطريقة، لا تاريخيا ولا سوسيولوجيا. لا يجب القول إنه في 2011، انتقلت كل مكونات النخبة السياسية إلى الإيمان بالديمقراطية. إن اللعبة السياسية في نهاية المطاف مجموعة من موازين القوى، وتظهر تركيبات جديدة وفقا لموازين القوى التي تبرز في الساحة.

أنت تتحدث عن حقوق الإنسان والحريات. هذه ليست قراءة سليمة. فالحديث عن حدوث تراجع في مجال الحريات مؤشر على أن مجموعة من التصرفات الأمنية القمعية صارت غير طبيعية، صارت اختلالات لم يعد ممكنا قبولها. والصخب المثار حول هذا الموضوع يعطي الانطباع بأننا عدنا إلى سنوات الرصاص، ولكن هذا غير صحيح.

في الثمانينيات، كان بعض الأشخاص يثيرون هذا الأمر، ولكن في سرية، أما اليوم، فإن "المجلس الوطني لحقوق الإنسان"، وهو هيأة حديثة نوعا ما، أصدرت تقريرا حول تعذيب معتقلي الحراك يشير مباشرة إلى جهاز الدولة، وهذا شيء عظيم(...)

في نظرك، هل القصر محايد؟

ليس مفروضا فيه الحياد، فدستوريا هو جزء فاعل في اللعبة.

القصر فوق الأحزاب السياسية، وليس لديه أي حزب ولا أغلبية. ولكن لديه أفضليات وقناعات سياسية

لكنه من المفروض أن يكون فوق كل الأحزاب...

للقصر صلاحيات استراتيجية. والمغاربة قرروا ألا يكون طرفا محايدا. من الناحية المؤسساتية، هو فعلا فوق الأحزاب السياسية، وليس لديه أي حزب ولا أغلبية. ولكن لديه أفضليات وقناعات سياسية. ولم يطلب منه أي أحد أن يكون محايدا، فهناك قواعد للعبة السياسية تحظى عموما بالاحترام، بيد أن هذه القواعد يحددها مستوى الثقافة السياسية(...).

اليوم، هناك تحركات وتغييرات كبيرة، والفضاء المخصص لممارسة السلطة والمخول للحكومة واسع جدا. طبعا الحكومة ليست لها السلطة الكاملة ولكنها تتمتع بالعديد من الصلاحيات. وقد وظف "العدالة والتنمية" – أكثر من تجربة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال (في نهاية التسعينيات)- الموارد التي يتوفر عليها ووضع أعضاء في مراكز القرار بالجماعات الترابية التي يشرف على تدبير شؤونها، وجعل "زبناءه" يستفيدون من وجوده في السلطة. وجرى كل هذا بسرعة كبيرة. مثلا، حين تتبع طبيعة المعينين لتسيير الجامعات المغربية... باختصار، لا يمكن البتة القول إن هذا الحزب قد وضع على الهامش أو أنه لا يتمتع بأي سلطة.

عاد بعض السياسيين إلى المطالبة بتعديل الفصل 47 من الدستور الذي يقول "يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات مجلس النواب". بصفتك عضوا سابقا في اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، هل تعتقد أن لهذا النقاش ما يبرره؟

أعتقد أنه نقاش لا طائل من ورائه. يجب أن نترك الوقت للممارسة الدستورية وإعطاء دور أكبر للمحكمة الدستورية. فحتى ما سمي بـ"البلوكاج" يعتبر جزءا من اللعبة البرلمانية التعددية. لا أقول الديمقراطية بل التعددية (...).

إن هذا النقاش لا يتناول سوى الدستور المكتوب، ما يخفي الوزن المهم للدستور غير المكتوب الذي مازال يسير المغرب وبقواعد لا يتضمنها أي قانون...

نعم، طبعا. ولكن دعنا نتحدث هنا عن الدستور الفرنسي لـ1958. فطيلة عقد من الزمن، نظمت هذه الوثيقة سلطات نظام مستبد، وأعي جيدا ما أقول هنا. ولكن شيئا فشيئا، ومع مرور الولايات التشريعية وقفنا على لحظات تحولت فيها الجمهورية الخامسة إلى نظام برلماني. ثم كانت هناك فترات للتعايش (بين رئيس يساري ووزير أول يميني أو العكس). واليوم نحن أمام لحظة صار فيها النظام مشخصنا مع إيمانويل ماكرون.

إن الدستور المغربي أكثر انفتاحا من الدستور الفرنسي لـ1958. فالملك، مثلا، لا يمكنه حل الحكومة. والفرق بيننا أن فرنسا تتمتع بثقافة سياسية، بسلطات مضادة، ولها وسائل إعلام، ورأي عام يتحلى بالنضج، وتتوفر على مرجعية تاريخية ديمقراطية وليبرالية. هذا هو الفرق.

فالدستور لا يغير الأمور، بل يسمح بالتمييز بين "الحلال" و"الحرام".. الشرعي وغير الشرعي.. الدستوري وغير الدستوري. أما ما يساهم في تغيير الأمور وتطورها فهو تلك العناصر المشار إليها أعلاه. والحال أن الثقافة السياسية مهمة في المغرب، والسلطات المضادة تتشكل شيئا فشيئا، ولدينا مجتمع مدني نشيط، إذن على الأحزاب السياسية أن تنظم نفسها بشكل مغاير... وهذا يتطلب بعض الوقت.

الجميع يدلون بدلوهم في تقييم حصيلة عهد محمد السادس. ما السبيل في نظرك إلى اعتماد تحليل رصين؟

إن التقييم يحدث كل سنة. يمكن الحديث عن حصيلة التجهيزات، وهي مثيرة. ويمكن الإشارة إلى انخفاض مستوى الفقر، وهو مثير أيضا. ويمكن تقييم حصيلة تدبير الموارد الطبيعية، وهي سيئة جدا. وعلى أي حال، لا يمكن أثناء تقييم حصيلة عهد كامل أن نلقي بمسؤولية كل شيء على الملك.

 إن كان السؤال هو: هل العهد الحالي وفر الشروط اللازمة لتغيير عميق في المجتمع؟ فالجواب: نعم. هل هذا التغيير قد تحقق؟ لا، ليس بعد..التغيير جار.

ما هي حصة كل مؤسسة من مؤسسات النظام المغربي في هذه الحصيلة؟

إن نظام تحديد المسؤوليات في المغرب يتسم بالكثير من الغموض، ولكن في الوقت ذاته نكتشف أن للمغرب حصيلة ليست مرتبطة بالملك ولا بالحكومة.

وعلى أي، إن كان السؤال هو: هل العهد الحالي وفر الشروط اللازمة لتغيير عميق في المجتمع؟ فالجواب: نعم. هل هذا التغيير قد تحقق؟ لا، ليس بعد..التغيير جار.

إن أردنا ان نكون صارمين، فيجب الإقرار بأن العمود الفقري لكل هذا هو التعليم. والحال أن نظامنا التعليمي تعوزه الفعالية، ليس فقط على المستوى التدبيري، بل كذلك على مستوى الاختيارات المجتمعية. ولحد الآن، تجري الأمور بناء على التوافق مع مجتمع محافظ لا يعرف ماذا يريد. ويتم فقط تأخير الانهيار والفوضى بقيام الأسر بتعليم أبنائها بالاستثمارات الخاصة. فالنخبة تجدد نفسها بشكل مقبول، ولكن باقي الطبقات متروكة لحال سبيلها.

وهذا ليس مشكل الملك ولا الحكومة، بل هو مشكل المجتمع برمته، الذي يبدو شيزوفرينيا حول هذه القضايا. لك مثال على هذا في الصراع الضاري الذي ميز النقاش حول لغة التدريس.

ويجدر هنا التذكير أن أغلبية الطبقة السياسية يهيمن عليها المدرسون - المحافظون في أغلبهم- الذين يعدون في الآن نفسه ضحايا النظام (système) وجلاديه.

ترجمة بتصرف عن "تيل كيل"